للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما أبو عبيدة فلم يهمل ذكره كما أهمل الجاحظ بل أشار إليه في كثير مما اتكأ فيه عليه وإن أغفله حيث يجب الذكر في مواضع هامة، وكأن يجنح إلى معارضته دون داع موجب غير اختلاف وجوه النظر بين عقليتين متباعدتين، ومن ذلك قوله ص ١٥٣: وكان بعض أصحاب اللغة يذهب في قول الله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} إلى مثل هذا في القلب، ويقول وقع التشبيه بالراعي في ظاهر الكلام والمعنى للمنعوق به وهو الغنم (١)، وكذلك قوله سبحانه {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي تنهض بها وهي مثقلة، ثم يقول ابن قتيبة (٢) في نقد ذلك وهذا ما لا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله عز وجل لو لم يجد له مذهبًا لأن الشعراء تقلب اللفظ وتزيل الكلام على طريق الغلط أو على الضرورة للقافية، وبعد أن يستشهد على ذلك بأمثلة معروفة للشعراء يقول (٣) "والله لا يغلط ولا يضطر وإنما أراد" ومثل الذين كفروا ومثلنا في وعظهم كمثل الناعق بما لا يسمع، فاقتصر على قوله ومثل الذين كفروا وحذف ومثلنا، لأن الكلام يدل عليه ومثل هذا كثير في الاختصار.

ونحن لا نرفض تأويل ابن قتيبة فهو مما يجوز، ولكننا نرفض أن يكون وحده التأويل الصحيح بحيث يكون رأى أبي عبيدة خطأ لا يحتمل الصواب ورأيه صوابًا لا يحتمل الخطأ لأن القلب لا يكون للاضطرار الشعري كما ظن ابن قتيبة بل يكون لتأكيد المعنى وتجليته ولغيرهما من الأمور البيانية التي تظهر الصورة ذات لمح وإشعاع! وقد جاء القلب في اللسان العربي شعرًا ونثرًا حتى اشتهر قول الأعرابي "عرضت الناقة على الحوض" مريدًا به عرضت الحوض على الناقة، ولم يكن الأعرابي في قوله شاعرًا فيضطر إلى هذا القلب، ولكنه كان بليغا يعني ما يقول!


(١) هذا كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن ج ١ ص ٦٣.
(٢) المشكل ص ١٥٤.
(٣) المشكل ص ١٥٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>