إن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون، الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله، وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل .. فلا يفوت المسلم (العلم) البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة، وهي أن هنالك غيبًا لا يطلع عليه أحد إلا من شاء الله بالقدر الذي يشاء.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها (الفرد)، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل فمن ذلك الحيز الصغير المحدود، الذي تدركه الحواس -والأجهزة- التي هي امتداد الحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان. وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير، كما أنها بعيدة في حياته على الأرض.
لقد كان الإيمان بالغيب، الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمية، ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان -كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقري إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ويسمون هذا تقدمية وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة هي صفة {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .. والحمد لله على نعمائه .. والنكسة للمنتكسين والمرتكسين.
والذين يتحدثون عن (الغيبية) و (العلمية)، يتحدثون كذلك عن الحتمية التاريخية، كأن كل المستقبل مستيقن! والعلم في هذا الزمان يقول: إن هناك (احتمالات) وليست هنالك حتميات، ولقد كان ماركس من المتنبئين بالحتميات، ولكن أين نبؤات ماركس اليوم؟ لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في إنجلترا نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي، ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفًا صناعيًا، في روسيا والصين وما إليها! ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية؟ ولقد تنبأ (لينين) وبعده (ستالين)(١)، بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي، وها هو ذا
(١) رحم الله صاحب الظلال، فلقد شاء الله له أن يستشهد قبل أن تنتهي الشيوعية، ويتفكك الاتحاد =