الألفاظ مفاهيمها ودلالتها، وهناك تفقد الحقيقة كل قيمة، وتعيش الإنسانية عيشة تعاسة وشقاء، كما رأينا عند السفسطائيين، لذا كان أول عمل قام به سقراط هو تحديد مفاهيم الألفاظ. والخروج عن تحديدها قد فتح الباب أمام الفرق الباطنية التي كان لها أسوأ الأثر في حياة المسلمين الفكرية والسياسية. وفي صحيح البخاري روي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال:(قل ونبيك الذي أرسلت)(١). وهذه ليست أخطر مما نحن بصدده. وإذا أجزنا أن نسمي الملائكة قوى طبيعية فإن من الممكن أن يقول قائل (أنا لا أؤمن بأن الله هو الخالق كما تسمونه، وإنما أسميه الطبيعة، ولا أسمي رسولكم نبيًّا وإنما أسميه عبقريًا أو فيلسوفًا! ) وهذا باب إن فتح فلن تكون منه إلا معاول الهدم لهذا الدين.
ويستحيل كذلك أن نسمي الخواطر الحسان ملائكة، والتمثيل الذي أورده الإمام في القصة، فضلًا على أنه يفتح أبواب التأويل للذين في قلوبهم مرض، وعلى رغم ما في الكثير منه من تكلف ظاهر، فإنه مخالف صراحة لكثير من النصوص. وعلى سبيل المثال: تمثيله سجود الملائكة لآدم ورفض إبليس بتسخير القوى الطبيعية وتحكم الإنسان فيها، مع أن سجود الملائكة قد ذكر كثيرًا في القرآن. وفي بعض الآيات تحديد لهوية إبليس بأنه من الجن، وهذه المحاورات الكثيرة في القرآن تنفي هذا التمثيل. وكون المقصود من آدم النوع البشري ومن الجنة الراحة والنعيم ينفيه مثل قول الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا}[الأعراف: ٢٧].
لقد عد الكتاب والسنة الإيمان بالملائكة ركنًا من أركان الإيمان، في مثل قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}[البقرة: ١٧٧] وقوله {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}[البقرة: ٢٨٥] وفي مثل قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ردًّا على سؤال
(١) صحيح البخاري كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء رقم (٢٤٧).