للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حسبك أنه تعالى جعل هذا البذل بمثابة الإقراض له وهو الغني عن العالمين الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وإنما يقترض المحتاج - وأنه عبر عن طلبه بهذا الضرب من الاستفهام، المستعمل للإكبار والاستعظام، فإنه إنما يقال: من ذا الذي يفعل كذا؟ في الأمر الذي يندر أن يقدم عليه أحد. يقال: من ذا يتطاول إلى الملك فلان؟ أو من ذا الذي يعمل هذا العمل وله كذا؟ إذا كان عظيمًا أو شاقًا يقل من يتصدى له قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: ٢٥٥] وقال {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب: ١٧].

ولا يقال من ذا الذي يشرب هذه الكأس المثلوجة - وهجير الصيف متقد، والسموم تلفح الوجوه -؟ (١).

٤ - وعند قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ١٧٣].

قال: (ومن مباحث البلاغة في الآية أن ذكر (غفور) له فيها نكتة دقيقة لا تظهر إلا لصاحب الذوق الصحيح في اللغة، فقد يقال إن ذكر وصف الرحيم ينبئ بأن هذا التشريع والتخفيف بالرخصة من آثار الرحمة الإلهية، وأما الغفور فإنما يناسب أن يذكر في مقام العفو عن الزلات والتوبة عن السيئات. والجواب عن هذا أن ما ذكر في تحديد الاضطرار دقيق جدًّا، ومرجعه إلى اجتهاد المضطر، ويصعب على من خارت قواه من الجوع أن يعرف القدر الذي يمسك الرمق ويقي من الهلاك بالتدقيق، وأن يقف عنده، والصادق الإيمان يخشى أن يقع في وصف الباغي والعادي بغير اختياره، فالله تعالى يبشره بأن الخطأ المتوقع في الاجتهاد في ذلك مغفور له ما لم يتعمد تجاوز الحدود، والله أعلم) (٢).


(١) ٢/ ٤٦٢.
(٢) ٢/ ٣٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>