الآية ليست معضلة ولا مشكلة وليس في القرآن معضلة إلا عند المفتونين بالروايات والاصطلاحات وعند من اتخذوا المذاهب المحدثة بعد القرآن أصولًا للدين يعرضون القرآن عليها عرضًا، فإذا وافقها بغير تكلف أو بتكلف قليل فرحوا وإلا عدوها من المشكلات والمعضلات على أن القاعدة القطعية المعروفة عمن أنزل عليه القرآن -صلى الله عليه وسلم- وعن خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم): أن القرآن هو الأصل الأول لهذا الدين، وإن حكم الله يلتمس فيه أولًا، فإن وجد فيه يؤخذ، وعليه يعول، ولا يحتاج معه إلى مأخذ آخر، وإن لم يوجد التمس من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على هذا أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا حين أرسله إلى اليمن، وبهذا كان يتواصى الخلفاء والأئمة من الصحابة والتابعين، وقد رأى القارئ أن معنى الآية واضح في نفسه لا تكلف فيه ولا إشكال ولله الحمد.
سيقول أدعياء العلم من المقلدين: نعم إن الآية واضحة المعنى كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء، وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أولئك الفقهاء المحققين، ويعقل أن يخالفوها من غير معارض لظاهرها أرجعوها إليه. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء -وإن كان المقلد لا يُحاجُّ لأنه لا علم له- وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلًا مشكلًا؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح: آلطعن ببلاغة القرآن وبيانه لحمله على كلام الفقهاء، أم تجويز الخطأ على الفقهاء؛ لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر التي منها قصر الصلاة وجمعها وإباحة الفطر في رمضان، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين؟ أليس من المجرب أن الوضوء والغسل يشقان على المسافر الواجد للماء في هذا الزمان الذي سهلت فيه أسباب السفر في قطارات السكك الحديدية والبواخر؟ أفلا يتصور المنصف أن المشقة فيهما أشد على المسافرين على ظهور الإبل في مفاوز الحجاز وجبالها؟ هل يقول منصف إن صلاة الظهر أو العصر أربعًا في السفر أسهل من الغسل أو الوضوء