للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو ما يسميه علماؤنا بالتشكل، في تفسير مجيء الملك جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة بشكل أعرابي، وأحيانًا في صورة دحية الكلبي، وتمثله للسيدة مريم -صلوات الله وسلامه عليه- بشرًا سويًّا. وإذا كان الماديون لا يصدقون الروحانيين في هذا، فهم لا يستطيعون أن يقولوا إنه مُحال في نفسه. وإنما قصارى إنكارهم أن قالوا إنه لم يثبت عندنا، وإذا كان ممكنًا غير محال أن يكون مما وهب الخالق للمخلوق أفيكون من المحال أن يفعله الخالق عز وجل من غير أن يجعل للأرواح فيه عملًا؟ .

ليس للكفار شبهة قوية على أصل البعث: وكل ما كان يستبعده المتقدمون من أخبار عالم الغيب قد قربه ترقى العلوم الطبيعية إلى العقول والأفهام. حتى قال بعض كبراء الغرب: ليس في العالم شيء محال. ولكن للمتقدمين والمتأخرين شبهة على حشر الأجساد ترد على ظاهر قول جمهور المسلمين إن كل أحد يحشر بجسده الذي كان عليه في الدنيا أو عند الموت لكي يقع الجزاء بعده على البدن الذي اقترف الأعمال.

وتقرير هذا الإيراد أن هذه الأجساد مركبة من العناصر المؤلفة منها مادة الكون كله، وهي مشتركة، يعرض لها التحليل والتركيب، فتدخل الطائفة منها في عدة أبدان على التعاقب، فمن الإنسان والحيوان ما تأكله الحيتان أو الوحوش، ومنها ما يحرق فيذهب بعض أجزائه في الهواء فيتصل كل بخاري -أو غازي- منها بجنسه كبخار الماء وعنصريه، والكربون، وينحل ما يدفن في الأرض فيها ثم يتغذى بكل منهما النبات الذي يأكله بعضه الناس والأنعام فيكون جزءًا من أجسادها، ويأكل الناس من لحوم الحيتان والأنعام التي تغذت من أجساد الناس بالذات أو بالواسطة، فلا يخلص لشخص معين جسد خاص به، بل ثبت أن الأجساد الحية تنحل وتندثر بالتدريج وكلما انحل بعضها بالتبخر وبموت بعض الدقائق الحية يحل محله غيره من الغذاء بنسبة منتظمة من الدم المتحول بحسب سن الله الذي أحسن كل شيء خلقه، فلا يمر بضع سنين على جسد إلا ويتم اندثاره وتجدده فكيف يمكن أن يقال إن كل إنسان وحيوان يحشر بجسده الذي كان في الدنيا؟

<<  <  ج: ص:  >  >>