للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تدع ضربًا من ضروب الانتفاع بهذه الأرض إلا تناولته، ولا طريقًا من طرق الاستفادة من خيراتها إلا سلكته: حلّلت العناصر وركبتها، صهرت المعادن وطبعتها، عرفت طباع الحيوانات وسخرتها، فقهت خصائص النباتات واستنبتتها، اكتشفت نواميس المادة وأخضعتها، اكتنهت أسرار الكائنات واستخدمتها، غاصت في أعماق الماء، طارت في أجواء السماء، إذا اعترضتها شوامخ الجبال نادتها بالبخار من تحتها. أو توقَّلت بسلالم سكك الحديد من فوقها. وبالجملة فإن من بلوغ البشر هذه الدرجة من الرقي، مصداقًا لامتنان الباري تعالى عليهم، بجعل الأرض ذلولًا لهم يمشون في مناكبها، ويأكلون من رزقها حتى يأتيهم اليوم المقدور، ثم إلى الله يكون النشور.

وقد يقال في تصوير كون الأرض ذلولًا لنا معشر البشر، أننا نعيش محمولين على ظهرها، وهي تسير بنا في فلكها حول الشمس، لا تبطئ ولا تسرع بأكثر مما تستدعيه حال سكانها، ولا تصادم نجمًا أو ذنبًا لذوات الأذناب السابحة في الفضاء. فكانت الأرض لنا نعمت المطية المدربة والذلول المجربة) (١).

ب- ويقول في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢)} [المعارج: ١٩ - ٢٢].

(أما الخلق الذي فطر عليه الإنسان، فهو ما عبر عنه بقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩)} وأراد بالإنسان كل أفراده لا واحدًا منه، بدليل استثناء (المصلين) منه، والاستثناء معيار العموم، أما الهلوع فقد فسره الكتاب نفسه بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرّ. . .} والمعنى أن الله خلق الإنسان، وغرس في نفسه منذ أول نشأته، هذا الخلق الذي هو (الهلع) فهو (إذا مسه الشر) ونزل به المكروه، من فقر أو مرض أو خوف، كان (جزوعًا) فيستولي عليه اليأس والقنوط، ويحسب


(١) تفسير جزء تبارك ص ١١ - ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>