للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رضاء الله وكرامته، فهي الوفاء بالنذر. وأنت ترى أنه خص هذه الخصلة بالتقديم على الخصلتين الأخريين، وليس ذلك لأن المراد بها، أن ينذر المؤمن لله صيام يومين، أو صلاة ركعتين أو إطعام رغيفين، ثم يفعل ما نذره ليس المراد ذلك، وإن كان الوفاء بما ذكرنا مطلوبًا شرعًا، وإنما المراد بالوفاء بالنذر، الذي جعله الله من صفات الأبرار في قوله تعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قوة الإرادة، فلا يأخذ على نفسه عمل خير، أو ممارسة فضيلة أو قيامًا بأمر نافع له أو لقومه دنيا وأخرى -إلا أمضاه ووفى به، ويدخل في ذلك الوفاء بما نذر من قربة أو طاعة. أما أن الواحد منا، يفكر في عمل صالح ينفع قومه، ويعلن أنه يريد القيام به والإقدام عليه، ثم يتقاعس عنه ويفتر، ويماطل إذا سئل عنه ويعتذر، فهذا هو ضعف الإرادة الذي عابه القرآن في غير ما موضع من آياته، ولم يجعله من خصال الأبرار الذين يستحقون دخول جناته. قال ابن جرير في تفسيره: (والنذر هو كل ما أوجبه الإنسان علي نفسه من فعل، ومنه قول عنترة:

الشاتميْ عِرْضِي ولم أَشْتِمْهُمَا. . . وَالناذِرَيْن إذا لم ألقهما دمي

ولا يخفى أن سفك دم عنترة، الذي نذره أبناء ضمضم ليس من القربات في شيء، فهذا هو النذر في لغة العرب، وهذا هو طريق استعماله لحين نزول القرآن، ثم لما شاع استعماله في نذر القربات، لم يعد يفهم منه إلا نذر هذه الأشياء، ككثير من كلمات اللغة الواردة في القرآن والسنّة، اختلفت معانيها باختلاف الزمان وعلى المفسر المتقن أن ينتبه إلى ذلك الاختلاف (١) وليفطن أن الوفاء بالنذر الذي مدحه القرآن في هذه الآية، عبارة عن قوة الإرادة التي من آثارها إبراز كل عمل صالح نافع إلى ساحة الوجود، بعد أن جرى التصميم عليه في ساحة الفكر، وإن لم يبرزه المفكر، لم يكن موفيًا بالنذر، ولم يكن من الأبرار الذين تصدق عليهم هذه الآية، بل تصدق عليهم آية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ


(١) قول الشيخ هذا يفقد عنصري الدقة والموضوعية.

<<  <  ج: ص:  >  >>