ومهما يكن من أمر، فإنه يظهر من هذه التفسيرات أن أصحابها يحاولون أن يخضعوا آيات القرآن، ليجعلوها في نطاق دائرة العقل، ولو أدى بهم ذلك إلى ركوب مخاطر التأويل، وهذا أمر لا ينبغي أن نجعله تحت ذمة آرائنا ومسلمات عقولنا، فنأخذ ما نأخذ ونرد ما نرد، وأمير ركبنا في ذلك كله العقل، الذي فتنته الحضارة المادية تارة، والفلسفة تارة أخرى.
والشيخ كغيره من رجال هذه المدرسة، ينفون كل جمود عن هذا الدين، مبينين فلسفة الأحكام وحكمة التشريع في أثناء تفسيراتهم، وبيان حكمة التشريع من الأمور الدقيقة المهمَّة التي تزيل اللبس، وتنشر الطمأنينة في كثير من النفوس، يقول الشيخ في تفسيره لقوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}[الشورى: ١٣] (والحكم في هذه الشرائع الإلهية، أن الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية، ضل وكره الحياة، وكان أشقى من أنواع الحيوان، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه، فقد دلت التجارب على أن العقل غير المؤيد بالشرع الإلهي، يذهب مذاهب شتى: منها الصواب ومنها الضلال، وهو فيما عدا المحسات والماديات ضلاله أكثر من صوابه، وهذه آراء العلماء في الفلسفة والأخلاق، يشبه بعضها هذيان المحموم، وبعضها لا يدرك له محصل، على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين، وهذه مذاهب الاجتماع قديمًا وحديثًا لم تسعد الأمم بها، فلا بد من هداية تصدر عن المعصوم، يحملها من عند الله العلي الحكيم، وقد دلت التجارب أيضًا، على أن الأمم التي عملت بالهدى كله أو بعضه، سعدت بمقدار ذلك الهدى الذي عملت به، فلا بد من نظام يعتقد فيه العصمة من الخطأ، ويهدر معه حكم العقل، إذا حصل تعارض بينهما، فإن دائرة العقل محدودة، وهي قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل، وإذا قيل إن التدين مقيد للحرية، ومانع من التمتع باللذات، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء؟ فالجواب: إن الإسلام أباح الطيبات وحرم الخبائث، ولم يحظر من اللذات إلا ما يضر الإنسان، وليست السعادة في حرية