ابن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام، فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا، وكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاءوه وأكرموه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيوتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب نسأله؟ قلت: لا أرب لي فيه، واللَّه لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأرحل منه.
قال: فذهب وخالفه فتى من النصارى فدخل عليه فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟ قلت: لست على دينه، قال: وإن، فإنك تسمع منه عجبا وتراه، ثم قال لي الثقفيّ: أنت قلت: لا، ولكني قريشيّ، قال: فما يمنعك من الشيخ؟ فو اللَّه إنه ليحبكم ويوصي بكم، قال: وخرج من عندنا ومكث أمية حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انحذل إلى فراشه، فو اللَّه ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه [ (١) ] ، ما يكلمنا وما نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل؟ فرحلنا، فسرنا بذلك ليلتين من همه، ثم قال لي في الليلة الثالثة: ألا تحدث أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث؟ واللَّه ما رأيت مثل الّذي رجعت به من عند صاحبك، قال: أما إن ذلك شيء لست فيه، إنما ذلك شيء وجلت به من منقلبي، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟ قال: على ماذا؟
قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، فضحك ثم قال: بلى واللَّه يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة وفريق النار، قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه.
قال: فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه، حتى قدمنا على غوطة دمشق فبعنا متاعنا فأقمنا شهرين وارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاءوه أهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاء بعد ما انتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه، فو اللَّه ما نام ولا قام، وأصبح كئيبا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه.
[ (١) ] الغبوق: شراب اللبن في المساء، والصبوح: شرابه في الصباح، والمقصود هنا كناية عن الاضطراب وعدم الاتزان.