محمد صلّى اللَّه عليه وسلم أقرّ اليهود والنصارى في شريعته بالجزية مع علمه بأنهم يكذبونه ويقدحون في صدقه، وما كان ذلك منه إلا مراعاة لحرمة كتابهم وأنبيائهم، إنما علم أنهم وإن تصرّفوا فيها بالتبديل والتحريف، فإنّهم لم يحرفوا الجميع، وإنما حرفوا ما كان تحريفه مهما عندهم، فهم على بقايا من شرائعهم، فراعاهم لذلك وجعل عقوبة كفرهم إيقاع الجزية والصّغار عليهم.
ومن المعلوم أنه لو كان ملكا محضا لا نبوة له لأخلى الأرض منهم على تكذيبهم له وعدم طاعتهم، لأن هذا من شأن الملوك لا يستبقون من خشوا عاقبته، خصوصا ولم يكن يخفى عليه أنه جنس الملتين يبقى بعده، ويتطرق منهما تشكيك أمته بالشبهات والترهات، وذلك مما يضعف الناموس الملوكي.
فلما تركهم بالجزية دل ذلك على أنه مأمور فيهم من اللَّه تعالى بما لا تصبر عليه نفوس البشر، ولا يتجه على هذه الحجة إلا أن يقال: لعله تركهم ليستنبط له من تركهم هذه الشبهة وليحب الناس العدل وأخلاق النبوة.
لكن الجواب: أنه لو كان قصده ذلك لكان ذلك يحصل له بأن يقف، عنهم في حياته فقط ولا كان يوصي بهم كما أوصى بأمته حتى قال: أنا بريء ممن وافاني يوم القيامة ولذمي عليه مظلمة، وقال: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلولا أنه مأمور فيهم من اللَّه تعالى لما أبقاهم، ولو كان ملكا محضا يحب الرئاسة وإقامة الناموس لكان استبقاهم حال حياته وسكت عن الوصية فيهم بعد موته، حتى كان المسلمون أخلوا منهم الأرض.