للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان لباسه الصوف، وفراشه إهاب شاة، ووسادته من أدم، حشوها ليف، فيأتي عليه الشهران والثلاثة فلا توقد في بيته نار لمصباح، وتوفي ودرعه مرهونة، ولم يترك صفراء ولا بيضاء، هذا وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض، ووطئت له البلاد، ومنح الغنائم الكثيرة، فقسمها حتى أنه فرّق في يوم واحد ثلاثمائة ألف، وأعطى جماعة كل رجل مائتين من الإبل، وأعطى ما بين جبلين من الغنم،

وكان يأتيه السائل فيقول: والّذي بعثني بالحق ما أمس في آل محمد صاع من شعير ولا من تمر،

وكان يقول: أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت، وإذا شبعت حمدت.

وقد كان عيسى يتقلب في حياطة اللَّه له، ومدافعته عنه المكر والغوائل بحيث كان يمسي ويصبح آمنا ساكن النفس، قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ [ (١) ] الآية.

وكذلك نبينا عصمه اللَّه، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (٢) ] ، فكان يبرز وحده في سواد الليل وبالأسحار إلى البقيع والأودية، ومعه اليهود أعداؤه المجاهرون بعداوته في بلد واحد، فلم يصلوا منه إلى أي شيء، وهو يقتلهم ويسبي ذراريهم ونساءهم.

ودفع اللَّه تعالى عنه كيد قريش وهو بمكة، وأنبت على الغار له شجرة وأقام الحمام فعشش عليه، والعنكبوت فنسج على بابه، وقد رفع اللَّه عيسى إلى السماء، ولنبينا صلّى اللَّه عليه وسلم من ذلك [أعلى] [ (٣) ] مقام فإنه عرض عليه عند وفاته البقاء فاختار ما عند اللَّه وقربه تعالى على البقاء في الدنيا، فقبضه اللَّه تعالى ورفع روحه، ولو اختار البقاء، لكان كعيسى والخضر وإلياس عند اللَّه في سماواته، وفي عالمه في أرضه، لأن عيسى عليه السلام مقيم في السماء والخضر وإلياس يتجولان في السموات والأرض على ما قيل.

ومع هذا فإن جماعة من أمة محمد صلّى اللَّه عليه وسلم رفعوا كما رفع المسيح، وذلك أعجب،


[ (١) ] المائدة: ١١٠.
[ (٢) ] المائدة: ٦٧.
[ (٣) ] زيادة للسياق.