للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر باكيا ثم قام، فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فقال: اذهب وقل ما شئت، فو اللَّه لا أسلمتك لسوء أبدا.

هذا، وقد كان صلّى اللَّه عليه وسلم يذكر ما لقي من قومه من الجهد والشدة،

فقال لقد مكثت أياما وهذا صاحبي- يشير إلى أبي بكر رضي اللَّه عنه- بضع عشر ليلة، ما لنا طعام إلا الثريد في شعيب الجبال.

وكان عتبة بن غزوان يقول إذا ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة: لقد مكثنا أياما ما لنا طعام إلا ورق البشام [ (١) ] ، أكلناه حتى تقرحت أشداقنا، ولقد وجدت يوما تمرتين فجعلتهما بيني وبين سعد، وما فينا اليوم أحد إلا وهو أمين على كورته، وكانوا يقولون فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: إن أسعد الرجلين من حصلت له النواة في قسميها يلوكها يومه وليلته، وعدم القوت.

وكذا

قال صلّى اللَّه عليه وسلم: لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط،

وجاء صلّى اللَّه عليه وسلم يوما ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة العبدولي، فقال: لا تفعل يا عثمان! فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت، فقال له: [ذلت] [ (٢) ] يومئذ قريش وقلّت، فقال صلّى اللَّه عليه وسلم: بل كثرت وعزّت.

ثم غزا صلّى اللَّه عليه وسلم تبوك في ثلاثين ألفا، فهذا من قبل اللَّه عزّ وجلّ، الّذي يجعل من لا شيء كل شيء، ويجعل كل شيء مالا شيء، يجمد المائعات، ويميع الجامدات، يجمد البحر، ثم يفجر الصخر، وما مثله صلّى اللَّه عليه وسلم في ذلك إلا كمثل من قال: هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة، أصك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المتينة، فقرضها ونقضها، وهذه النملة الضعيفة اللطيفة، تهزم العساكر الكثيرة المعدة [ (٣) ] .

وكذا حقيقة أمره صلّى اللَّه عليه وسلم، حتى قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش- وكان


[ (١) ] شجر عطر الرائحة، ورقه يسوّد الشعر، ويستاك بقضبه. (ترتيب القاموس) : ١/ ٢٧٩.
[ (٢) ] زيادة للسياق.
[ (٣) ] المعدّة: من العتاد وآله الحرب.