للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المبرود يسخن بها فيتلذذ بذلك، والجسم المحرور يزيد في كمية حرارته فيتألم بها، فالنور واحد لهما، وكل واحد منهما يتألم بما به ينعم الآخر بعينه، فلو كان النور لإعطائه حقيقة واحدة، وإنما ذلك لاستعداد القابل.

وهكذا تجد الشمس تسوّد وجه القصّار [ (١) ] وتبيض الثوب الّذي يقصره، فإن استعداد الثوب تعطي الشمس فيه التبييض، ووجه القصّار تعطي الشمس فيه التسويد، وكذلك ترى الشمس تذيب الشمع والشحم، وتجفف الطين والثوب المبلول، فإن استعداد كل واحد من هذه المذكورات تعطيه الشمس بحسب قبوله، ومن ذلك الهواء، إذا هبّ فإنه في هبوبه يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب ونحوه مما من شأنه أن يقبل الاشتعال، وهكذا نفخك يطفئ السراج ويشعل النار في الحطب، وربما كان ذلك بنفخة واحدة، وذلك أن اختلافهما في الاستعداد يوجب اختلافهما في القبول، والهواء واحد في عينه، ومن هذا القبيل العطايا الإلهية، قال تعالى: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [ (٢) ] أي ممنوعا، فهو سبحانه معط على الدوام، والمحالّ تقبل على قدر ما أعطاها اللَّه تعالى من الاستعدادات، فإذا فهمت هذا علمت أن عطاء اللَّه تعالى ليس بممنوع، إلا أنك تحب أن يعطيك مالا يقبله استعدادك، وتنسب المنع إليه- سبحانه- فيما طلب منه، ولا تجعل ما لك من الاستعداد وتقول: إن اللَّه تعالى على كل شيء قدير، وتصدق في ذلك، ولكنك تغفل عن ترتيب الحكمة الإلهية وما تعطيه حقائق الأشياء والكل من عند اللَّه، فمنعه عطاء، وعطاؤه منع، ولكن بقي أن تعلم بكذا أو من كذا.

وإذا تدبرت هذه الأمثلة انجلت لك شبهة ما أورده أهل الزيغ والإلحاد على عموم أن رسالة محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رحمة للعالمين، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

قال أبو عبد اللَّه محمد بن علي المعروف بالحكيم الترمذي: إن الأنبياء والرسل


[ (١) ] القصّارة المحوّر للثياب لأنه يدقها بالقصرة التي هي القطعة من الخشب وحرفته القصارة، والمقصرة:
خشبة القصّار. (لسان العرب) : ٥/ ١٠٤.
[ (٢) ] الإسراء: ٢٠.