وكان حريًا أن تكون المذاهب وأقوال أصحابها تبعًا لما نزل به الكتاب، وما بيّنته السنّة، فكما أن فتح مجال الاجتهاد والتصرف بالنصوص - دون حدود من الكفاءة دينًا وعلمًا ومعرفة بلغة الشريعة وأصولها - ينذر بالخطر والتشتيت. كذلك جعل المذهب هو المحور، وتطويع النصوص له ولآراء أصحابه، فيه المضرة، والبُعد عن جادة الحق في كثير من الأحيان.
والناظر في تاريخ أي إمام من أئمة المذاهب الجماعية أو الفردية (١) يرى أنهم كانوا على أعز جانب وأغلاه، من الحيطة والحذر والحرص على أن يكون سيرهم ومسالكهم في الاستنباط، وراء الآيات، والأحاديث الثابتة، وما فهمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، دون إغماض أعينهم عن واقع الحياة - على تفاوت بينهم في هذه النظرة أو تلك - ولقد أدّى هؤلاء العلماء الأمانة خير ما يكون الأداء، وعلى الذين يلونهم التزام الطريق، دون نكران للأصول التي كانت معالم الطريق.
ولنتابع السير لنرى كم فعل الهوى وجب الظهور من الأفاعيل في عصرنا هذا؛ فأنت تسمع كل يوم صوتًا حول مسألة من مسائل هذه الشريعة؛ فيومًا تأويل لبعض مسائل الطلاق وتعدد الزوجات. ويومًا كلام حول إباحة الفطر في رمضان. وفي يوم آخر كلام منمّق حول الربا أو حول الجهاد والتعامل مع الآخرين، لتحليل ما حرّم الله. يجري كل هذا في بحر من التأويلات التي تضم - إلى بُعدها عن اللغة - أنها لا ترضي الله ولا ترضي رسوله صلوات الله عليه، وإن كانت ترضي شهوة، وتجلب لقائليها بعض الخير في الدنيا. علمًا بأن واقعية الإسلام في تقدير المصالح، وبعده عن الحرج، وقدْرُه إنسانية الإنسان وحريته قدرهما. - فيها غناء لأهل الاستقامة، ومقنع لمن أراد مقنعًا.
(١) يراد بالمذاهب الجماعية: تلك المذاهب التي نُسبت إلى إمام معين بعد أن تكونت من آراء الفقهاء وأستاذهم الذي ينتسبون إليه؛ كالمذهب المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي، أما المذاهب الفردية: فهي تلك الآراء التي تنقل بأسماء أصحابها بشكل فردي، وذلك كما في مذاهب الصحابة ومن يليهم، كما في مذاهب سعيد بن المسيب، والحسن البصري والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة والأوزاعي وغيرهم.