إن ما يقال في تدوين أصول الفقه بشكل عام، يقال في تدوين تفسير النصوص، الذي هو جوهر أصول الفقه ولبابه. فقد انتقل رسول الله ﷺ إلى الدار الآخرة بعد أن أدّى أمانة التبليغ والبيان. فالذي أوحي إليه بلّغه للناس، وكان بجانب التبليغ يبيّن لأصحابه وهم أبناء العربية سليقةً - بقوله وفعله وسلوكه ومواعظه، وأقضيته وفتاواه - ما يلزم بيانه لفهم الكتاب، وما يلزم المكلفَ معرفته ليكون مسلمًا في عقيدته وعبادته ومعاملاته، بحيث يسير الفرد والجماعة في الطريق التي تضمن - مع البناء القديم - سعادة الدنيا والآخرة.
وهكذا لم تكن حاجة إلى فقه مدوّن، أو مناهج لاستنباط الأحكام من كتاب الله وسنّة رسوله، ما دام الموحى إليه موجودًا يؤدي أمانة ربه في البيان، تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤].
وجاء عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وهم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، ولديهم سنّة رسول الله ﷺ المبيّنة عن الله ما أراد، فكان لهم من سليقتهم العربية ومعرفتهم بأسباب النزول وطبيعة البيئة التي نزل فيها الوحي، وإدراكهم لأسرار التشريع، بما أدركوا من حال رسول الله ﷺ وقاله، وأسباب ورود الأحاديث: ما أغناهم عن وضع قواعد لتفسير النصوص، التي يراد استنباط الأحكام منها (١).