هذا وقد رتب أبو سليمان الخطابي الأقوال الثلاثة على الشكل الذي أوردناه.
والذي نختاره هو القول الأول؛ لما يلاحظ من أن الرسول ﵊ جعل ما يفعله الإنسان من القبيح: إنما يكون نتيجة لفقدان الحياء.
ولقد جئنا بهذا القدر من الأمثلة نموذجًا لما تزخر به بطون الكتب في هذه الشريعة؛ فأكثر الأحكام - كما ذكرنا غير مرة - قائم على الطلب في أمره ونهيه، ولقد أدى علماؤنا الأمانة حين لم يألوا جهدًا في بذل المستطاع عند تفسير النصوص: ببيان مدلولات الأمر، كاشفين أثر ذلك في الأحكام، تجد ذلك في كتب الأصول والفروع وتفسير نصوص الأحكام من الكتاب والسنة. وقد بلغ من عنايتهم في ذلك: أن عالمًا من علماء الحديث كالبيهقي (١)﵀ أفرد في "السنن الكبرى" بابًا خاصًّا، للأمر متى يكون الوجوب ومتى يكون للندب والإرشاد ومثل ذلك كثير.
* * *
[المطلب الرابع ما يدل عليه الأمر المطلق في الوحدة والكثرة]
يرى المتتبع لمباحث العلماء في تفسير النصوص أن مسألة هامة قد عرضت لهم في مدلول الأمر: وذلك من ناحية ما يقتضيه من الوحدة أو الكثرة. ولقد كان ذلك ميدان اختلاف في وجهات النظر، حتى تعددت المذاهب وعُنيَ كل فريق بالاستدلال على ما أراد.
(١) هو أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر البيهقي من أعلام الشافعية وأئمة الحديث ومفاخر الإسلام، قال الذهبي: (لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبًا يجتهد فيه، لكان قادرًا لسعة علومه ومعرفته بالاختلاف) وقد عمل في كتبه جاهدًا لنصرة مذهب الشافعي وتأييد آرائه. صنف زهاء ألف جزء منها: "السنن الكبرى" و "السنن الصغرى" و "دلائل النبوة" و "المبسوط" و "الجامع المصنف في شعب الإيمان". توفي ﵀ سنة ٤٥٨ هـ.