للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فظلموا أنفسهم بعقرها؛ فالأخذ بظاهر العربية فحسب، يجعل الناظر في الآية يظن أن لفظ (مبصرة) هو من الإبصار بالعين، وهو حال من الناقة وصفٌ لها في المعنى، ولا يدري بعد ذلك بماذا ظلموا أنفسهم وغيرهم. فهذا من الحذف والإضمار، وأمثال ذلك في القرآن كثير (١).

ومن هنا قال ابن عطية في معنى خطأ القائل في القرآن برأيه وإن أصاب: (ومعنى هذا أن يُسألَ الرجل عن شيء من كتاب الله ﷿، فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلم: كالنحو والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفسر اللغويون لغته، والنحويون نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة: ليس قائلًا لمجرد رأيه).

وقال القرطبي بعد أن نقل هذا الكلام: (قلت هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن من قال بما سنح في وهمه، وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول: فهو مخطئ، وإن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على معناها: فهو ممدوح) (٢).

[تفسير جائز ومطلوب]

وهكذا يتقرر لدينا المبدأ الذي يجعل حظر القول في القرآن بالرأي، محدودًا في نطاق التفسير في ظل الهوى والشهوة، والبُعد عن لغة الكتاب التي بها نزل، والمجافاة لما صحّ من السنة وآثار السلف، إذ إن التفسير في هذه الحال اجتهاد لا ينبني على قوانين علم ونظر، بل هو على شفا جرف هارِ، وحسبك أنه قول من غير علم ولا هدًى، وجنوح إلى الرأي والهوى.

والباحث في هذا الموضوع: لا يعجزه أن يجد الأدلة المتضافرة على جواز التفسير بالرأي فيما وراء الحدود التي سلف عنها الحديث.


(١) راجع: "الإحياء" (١/ ٢٩٨ - ٢٩٩)، "تفسير القرطبي" (١/ ٢٨).
(٢) انظر: "جامع لأحكام القرآن" (١/ ٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>