للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجوب. وما كان ذلك إلا لقرائن صحبتها فحولت مدلول الأمر من الوجوب إلى غيره.

وفي أمثلتنا على المعاني التي يستعمل فيها الأمر، كثير من هذا.

ذلك قول الله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٦٠]. حيث حمل العلماء الأمر في الآية على الإباحة والإذن؛ وذلك لأن الأكل والشرب من الأمور التي تستدعيها طبيعة الحياة، ولا يستغني عنها الإنسان في نمو جسمه والحفاظ عليه.

فكان ذلك قرينة على أن الأمر بالأكل والشرب في الآية: ليس للوجوب، وإنما هو للإباحة والإذن. على أن هذا لا ينفي وجوب الأكل أو الشرب عندما يكون في ترك واحد منهما قتل للإنسان؛ إذ حرام عليه أن يمتنع حتى يقتل نفسه.

ومنه قول الرسول صلوات الله عليه لعبد الرحمن بن عوف في شأن وليمة الزفاف: "أولم بشاة" (١) فالأمر عند الجمهور محمول على الندب، بقرينة أن مثل هذه الأمور إنما يتعلق بأحوال الناس الخاصة وأعرافهم وعاداتهم، وقد يكون في الوجوب حرج يباعد عنه الدين.

ومنه قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] فإن الجمهور: - كما سبق - ذهبوا إلى أن الأمر بالكتابة في هذا النص ليس للوجوب، وإنما هو للإرشاد إلى ما يضع التعامل بين الناس في إطار من الحيطة يحفظ الحقوق لأصحابها، والقرينة التي صرفت


(١) أخرج أحمد من رواية أبي سعيد الخدري (١٣٤١١) والأئمة الستة: البخاري (٢٠٤٨) مسلم (١٤٣٧)، أبو داود (٢١٠٩)، الترمذي (١٩٣٣)، النسائي (٣٣٥١)، ابن ماجه (١٩٠٧) بألفاظ مختلفة من رواية أنس بن مالك أن رسول الله رأى على عبد الرحمن بن عوف آثار صفرة فقال: "ما هذا؟ " فقال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة على نواة من ذهب، فقال له الرسول: "أولم ولو بشاة" وذهب الظاهرية، وكذلك الشافعية في قول أو وجه إلى وجوب الوليمة. انظر: "المحلى" (٩/ ٤٥٠) "المنهاج" مع "مغني المحتاج" (٣/ ٢٤٥)، "نيل الأوطار" (٦/ ١٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>