للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويضرب لنا ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه أروع مثال وأصدقه لحرص الصحابة رضي الله عنهم على جمع الكلمة، والعمل على حقن دماء المسلمين ولو بسفك دمائهم، فلقد ضحى بنفسه ولم ينخلع من الخلافة خشية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يتركوا بلا إمام، أو تكون سنة للخارجين فينفتح باب شر على الأمة. لقد دخل عبدالله بن عمر رضي الله عنه على عثمان وهو محصور في الدار، وقال: "ما ترى فيما أشار به علي المغيرة بن الأخنس؟ قال ابن عمر: ما أشار به عليك؟ قال: إن هؤلاء القوم يريدون خلعي فإن خلعت تركوني، وإن لم أخلع قتلوني، قال ابن عمر: أرأيت إن خلعت تترك مخلدا في الدنيا؟ قال: لا، قال: فهل يملكون الجنة والنار؟ قال: لا. قال ابن عمر: أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك؟ قال: لا. قال: فلا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصا قمصكه الله (١).وفي رواية عن عثمان أنه قال: "أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله" (٢)، وقال: "والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أخلع أمة محمد بعضها على بعض (٣).وليس هذا فقط؛ بل إنه رضي الله عنه نهى الصحابة عن الدفاع عنه، وقتال من حاصروه حتى لا يراق دم بسببه، فقد جاء زيد بن ثابت إلى عثمان، وقال له: "هذه الأنصار بالباب يقولون إن شئت كنا أنصارا لله مرتين. فيقول له عثمان: أما القتال فلا" (٤).وقال رضي الله عنه يوم حصر في الدار: "إن أعظمكم عني غناء رجل كف يده وسلاحه" (٥).وقال لأبي هريرة لما طلب منه الإذن بقتال هؤلاء الخارجين عليه المحاصرين له، قال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا وإياي؟ قال: لا، قال: فإنك والله إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتل الناس جميعا، فرجع أبو هريرة ولم يقاتل (٦).فعثمان رضي الله عنه اختار أهون الشرين، فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين (٧). والصحابة حوله امتثلوا أمر الله بطاعة الإمام، وكان رضي الله عنه قد عزم عليهم بحقه في طاعتهم له ألا يقاتلوا، فقال: "أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم غناء من كف يده وسلاحه" (٨) ..

ولقد سار الصحابة رضي الله عنهم على المنهج نفسه الذي رباهم عليه رسول اله صلى الله عليه وسلم من بغض الفرقة، والسعي لجمع الكلمة، والتنازل عن بعض الحقوق، من أجل ذلك، مثاله: أنه لما توفى الحسن بن علي رضي الله عنه وكان قد أوصى أخاه الحسين أن يدفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خاف قتالا أو فتنة فليدفن بالبقيع. فلما مات رضي الله عنه لبس الحسين السلاح وتسلح بنو أمية وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة؟ وخاف الناس وقوع الفتنة والقتال، فأشار سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر رضي الله عنهم على ألا يقاتل، فامتثل رضي الله عنه ودفن أخاه قريبا من قبر أمه بالبقيع (٩).


(١) ((العلم الشامخ)) (ص٤٨٦).
(٢) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (٣/ ٦٦).
(٣) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (٣/ ٧٢).
(٤) انظر ((الطبقات)) (٣/ ٧٠)، وانظر ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص١٢٥ - ١٢٩).
(٥) انظر ((الطبقات)) (٣/ ٧٠)، وانظر ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص١٢٥ - ١٢٩).
(٦) انظر ((الطبقات)) (٣/ ٧٠)، وانظر ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص١٢٥ - ١٢٩).
(٧) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) للخطيب (ص١٢٩).
(٨) انظر ((العواصم من القواصم)) (١٣٣).
(٩) انظر ((البداية والنهاية)) لابن كثير (٨/ ٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>