للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واليقين بهذا المعنى نظير الإحسان الوارد في حديث جبريل، لكن الإحسان في عمل الجوارح، واليقين في عمل القلب، والله أعلم.

فاليقين في الجملة متعلقة بالاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين.

ولهذا جاء أعظم الغيبيات - بعد الإيمان بالله - وهو الإيمان بالآخرة مقرونا باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:٤] في أول البقرة والنمل ولقمان.

فإن الإيمان بالآخرة - مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه - ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده.

واليقين نوعان:

١ - يقين في خبر الله.

٢ - يقين في أمر الله الشرعي والكوني.

فاليقين بخبر الله هو الإيمان بصدقه وتحققه ووقوعه - إن كان مما له الوقوع - إيمانا لا شك فيه، وهذا هو الإيمان بالغيب يقينا، ومن الأدلة عليه قوله تعالى وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:٦٠].الآية، فطلب الخليل من ربه مثالا للبعث يزيده إيمانه حتى يصبح يقينا خالصا، وقريب منه طلب الحواريين المائدة، فمع إيمانهم بقدرة الله طلبوا ما تطمئن به قلوبهم كذلك.

وهذا اليقين قد بلغ ذروته النبي صلى الله عليه وسلم - ليس فيما أخبر الله به من أمور الدين والإيمان فحسب، بل في كل خبر ووعد، حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان موقناً بأن الله سينصره ويظهره على العالمين وهو ما يزال في أقسى مواقف الاضطهاد والتشريد والأذى، ولم يستبطئ النصر كما استبطأه رسل من قبله فقالوا مَتَى نَصْرُ اللهِ [البقرة:٢١٤]، ولم يستيئس كما استيأس بعضهم.

وأما اليقين بأمر الله، فهو امتثاله برضاه وطمأنينة وتسليم - إن كان شرعيا، والرضا به والتسليم - إن كان كونيا.

وذروته ما فعله إمام الموحدين من الامتثال لذبح أبنه الوحيد وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف من أعظمها يوم الحديبية حين قال:" إني عبد الله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني " أو نحوها (١).

وهذا في حقيقته هو الاستسلام لحكمه استسلاما يرتقى لدرجة الإحسان - كما في قوله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:٦٥].

وهو تحقيق دين الإسلام وشهادة أن لا إله إلا الله التي هي العروة الوثقى، كما قال تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [لقمان: ٢٢].

مع قوله: وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ [البقرة: ٢٥٦].

ولهذا جاءت الآيات المحكمات الدالة على أتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها مذيلة بوصف اليقين لمن أمتثل، فدل على شك من خالف وارتيابه، قال تعالى:

<<  <  ج: ص:  >  >>