للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثبات على المنهج وتصميم على الحق ولو عذل العاذلون، ولام اللائمون، ولم يكن السعي لجمع الكلمة والعمل على حقن الدماء صادر من الحسن بن علي وحده، بل كان هذا موقف الصحابة رضي الله عنهم ففي المقابل كان معاوية ومن معه من الصحابة حريصين أيضا على جمع الكلمة وعقد الصلح، وحقن الدماء، لذلك أرسل معاوية للحسن بن علي رضي الله عنه يطلب منه الصلح ويشترط لنفسه ما شاءه لا عن قلة عدد جيشه بل خوفا من إراقة دماء المسلمين. فروى البخاري عن الحسن البصري قال: "استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية – وكان والله خير الرجلين – أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش ... فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، وقولا له واطلبا إليه (١).فأتياه فدخلا عليه فتكلما، وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به ... فصالحه. فقال الحسن (٢): ولقد سمعت أبا بكرة (٣) يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر – والحسن بن علي إلى جنبه – وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: ((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (٤).يقول الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله عن ذلك: "انظروا رحمكم الله وميزوا فعل الحسن الكريم بن الكريم أخ الكريم ابن فاطمة الزهراء مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قد حوى جميع الشرف، لما نظر إلى أنه لا يتم ملك من ملك الدنيا إلا بتلف الأنفس وذهاب الدين، وفتنة متواترة وأمور تتخوف عواقبها على المسلمين، صان دينه وعرضه، وصان أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يحب بلوغ ما له فيه حظ من أمور الدنيا، وقد كان لذلك أهلا، فترك ذلك بعد المقدرة منه على ذلك تنزيها منه لدينه، ولصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولشرفه، وكيف لا يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ابني هذا سيد، وإن الله عز وجل يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) (٥).هذا هو المنهج، وهذا هو موقف الصحابة من الفرقة، موقف ثابت لثبات ما يستندون إليه من قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتبدل أو يتغير، وإن تغير الأشخاص، فالخلافة والملك يعرض على صحابي آخر فيأباه خوفا على الأمة، وخشية إراقة دماء المسلمين، فلقد عرضت الخلافة على عبدالله بن عمر لكنه رفضها وقال: "إني والله لئن استطعت لا يهراق في سبي محجمة دم" (٦).ويقال له: لو أقمت للناس أمرهم، فإن الناس قد رضوا بك كلهم.


(١) أي طلب الصلح والتنازل عن الخلافة لمعاوية.
(٢) الحسن البصري راوي القصة.
(٣) هو: نفيع بن الحارث وقيا: نفيع بن مروح تدلى في حصار الطائف ببكرة فاشتهر بأبي بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومن فضلاء الصحابة رضوان الله عليهم، توفي سنة ٥١ هـ وقيل ٥٢هـ. انظر الإصابة (٦/ ٢٥٢)، السير (٣/ ٥).
(٤) رواه البخاري (٢٧٠٤).
(٥) كتاب ((الشريعة)) (٥/ ٢١٧٠)، وانظر ((فتح الباري)) (١٣/ ٦١ - ٦٧).
(٦) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (٤/ ١٥١)، وانظر منه (٤/ ١٤٩، ١٥٢، ١٦٩، ١٧١، ١٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>