للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك اليهود، والنصارى، والمجوس، وغيرهم من الكفرة، لم يوجد في قلوبهم حقيقة الإيمان المعتد به في حال حكمنا لهم بالكفر، قال الله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: ٨١]، وقوله: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: ٦٥]، فجعل الله هذه الأمور شرطا في ثبوت حكم الإيمان، فثبت أن الإيمان المعرفة بشرائط أن يكون معتدا به دونها.

فيقال: إن قلتم إنه ضم إلى معرفة القلب شروطا في ثبوت الحكم، لم يكن هذا قول جهم، بل يكون هذا قول من جعل الإيمان كالصلاة والحج، وهو وإن كان في اللغة بمعنى القصد والدعاء، لكن الشارع ضم إليه أمورا، إما في الحكم، وإما في الحكم والاسم. وهذا القول قد سلم صاحبه أن حكم الإيمان المذكور في الكتاب والسنة لا يثبت بمجرد تصديق القلب، بل لابد من تلك الشرائط (١).

وعلى هذا فلا يمكنه جعل الفاسق مؤمنا إلا بدليل يدل على ذلك، لا بمجرد قوله إن معه تصديق القلب.

ومن جعل الإيمان هو تصديق القلب، يقول: كل كافر في النار ليس معه من التصديق بالله شيء، لا مع إبليس، ولا مع غيره.

وقد قال الله تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ [غافر: ٤٨] ".

ثم ساق شيخ الإسلام عددا من الآيات، ثم قال:

"إلى آيات أخر كثيرة تدل على أن الكفار في الآخرة يعرفون ربهم، فإن كان مجرد المعرفة إيمانا كانوا مؤمنين في الآخرة.

فإن قالوا: الإيمان في الآخرة لا ينفع، وإنما الثواب على الإيمان في الدنيا.

قيل: هذا صحيح، لكن إذا لم يكن الإيمان إلا مجرد العلم، فهذه الحقيقة لا تختلف، فإن لم يكن العمل من الإيمان، فالعارف في الآخرة لم يفته شيء من الإيمان.

لكن أكثر ما يدعونه إنه حين مات لم يكن في قلبه من التصديق بالرب شيء. ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب" (٢).

سادسا: قال أبو القاسم الإسفراييني فيما نقله عنه الأنصاري:

"وهل يشترط في الإيمان الإقرار؟ اختلفوا - يعني أصحابه الأشاعرة - فيه بعد أن لم يختلفوا في أن ترك العناد شرط، وهو أن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار أتى به (٣)، فأما قبل أن يطالب به:

منهم من قال: لابد من الإتيان به حتى يكون مؤمنا، وهذا القائل يقول: التصديق هو المعرفة والإقرار جميعا.

وهذا قول الحسين بن الفضل البجلي، وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه، وبقريب من هذا كان يقول الإمام أبو محمد عبدالله بن سعيد القطان من متقدمي أصحابنا.

ونحن نقول: من أتى بالتصديق بالقلب واللسان، فهو المؤمن باطنا وظاهرا.

ومن صدق بقلبه، وامتنع من الإقرار، فهو معاند كافر، يكفر كفر عناد.

ومن أقر بلسانه، وجحد بقلبه، فهو كافر عند الله وعند نفسه، ويجري عليه أحكام الإيمان؛ لما أظهر من علامات الإيمان.


(١) وانظر ((الإيمان)) (ص٤١٩ - ٤٢٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٣٩ - ٤٤٠)، ويلاحظ أن القول بأن الإيمان هو التصديق والمعرفة، وأن الشرع زاده بقيود وشروط قول مرجوح عند جماهير العلماء كما ذكر شيخ الإسلام، راجع الكلام على الحجة الرابعة من حجج المرجئة.
(٢) ((الإيمان)) (ص١٤٣ - ١٤٦) ((الفتاوى)) (٧/ ١٤٩ - ١٥١).
(٣) انظر: ((المسامرة بشرح المسايرة))، (ص٩) من الخاتمة؛ و ((حاشية ابن عابدين)) (٦/ ٣٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>