للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فنفس العلم والتصديق بالله وما له من الأسماء الحسنى، والصفات العلى يوجب محبة القلب له وتعظيمه وخشيته، وذلك يوجب إرادة طاعته وكراهية معصيته. والإرادة الجازمة مع القدرة تستلزم وجود المراد، ووجود المقدور عليه منه، فالعبد إذا كان مريدا للصلاة إرادة جازمة مع قدرته عليها صلى، فإذا لم يصل مع القدرة دل ذلك على ضعف الإرادة" (١)، ثم قال:"وأما الإرادة الجازمة فلابد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور، ولو بنظرة، أو حركة رأس، أو لفظة، أو خطوة، أو تحريك بدن (٢).وبهذا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار)) (٣)، فإن المقتول أراد قتل صاحبه، فعمل ما يقدر عليه من القتال، وعجز عن حصول المراد، وكذلك الذي قال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان، فإنه أراد فعمل ما يقدر عليه، وهو الكلام، ولم يقدر على غير ذلك، ولهذا كان من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا؛ لأنه أراد ضلالهم، ففعل ما يقدر عليه من دعاتهم، إذ لا يقدر إلا على ذلك.

وإذا تبين هذا في الإرادة والعمل، فالتصديق الذي في القلب وعلمه يقتضي عمل القلب، كما يقتضى الحس: الحركة الإرادية.

لأن النفس فيها قوتان:

قوة الشعور بالملائم والمنافي، والإحساس بذلك، والعمل، والتصديق به.

وقوة الحب للملائم، والبغض المنافي، والحركة عن الحس بالخوف والرجاء والموالاة والمعاداة. وإدراك الملائم يوجب اللذة والفرح والسرور، وإدراك المنافي يوجب الألم والغم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء)) (٤).

فالقلوب مفطورة على الإقرار بالله تصديقا به، ودينا له، لكن يعرض لها ما يفسدها.

ومعرفة الحق تقتضي محبته، ومعرفة الباطل تقتضي بغضه؛ لما في الفطرة من حب الحق وبغض الباطل، لكن قد يعرض لها ما يفسدها، إما من الشبهات التي تصدها عن التصديق بالحق، وإما من الشهوات التي تصدها عن أتباعه".

ثم قال: "فالإيمان الذي في القلب لا يكون إيمانا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب ومجبه؛ من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيمانا بمجرد ظن وهوى، بل لابد في أصل الإيمان من قول القلب، وعمل القلب".

ثم قال: "وليس مجرد التصديق والعلم يستلزم الحب، إلا إذا كان القلب سليمان من المعارض، كالحسد، والكبر؛ لأن النفس مفطورة على حب الحق، وهو الذي يلائمها، ولا شيء أحب إلى القلوب السليمة من الله، وهذا هو الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلا، وقد قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: ٨٨ - ٨٩].

فليس مجرد العلم موجبا لحب المعلوم إن لم يكن في النفس قوة أخرى تلائم المعلوم، وهذه القوة موجودة في النفس.

وكل من القوتين تقوى بالأخرى، فالعلم يقوى العمل، والعمل يقوى العلم.

فمن عرف الله، وقلبه سليم: أحبه، وكلما ازداد له معرفة ازداد حبه له، وكلما زاداد حبه له ازداد ذكره له، ومعرفته بأسمائه وصفاته.

فإن قوة الحب توجب كثرة ذكر المحبوب، كما أن البغض يوجب الإعراض عن ذكر المبغض.


(١) وانظر: ((الفتاوى)) (٦/ ٥٧٤)؛ و ((منهاج السنة)) (١/ ١٦٣).
(٢) انظر: ((جامع المسائل)) (٤/ ٢٦٦).
(٣) رواه البخاري (٣١) , ومسلم (٢٨٨٨) , من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري (١٣٨٥) , ومسلم (٢٦٥٨) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>