للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمن عادي الله ورسوله، وحاد الله ورسوله كان ذلك مقتضيا لإعراضه عن ذكر الله ورسوله بالخير، وعن ذكر ما يوجب المحبة، فيضعف علمه به حتى قد ينساه، كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [الحشر: ١٩]، وقال تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: ٢٨].

وقد يحصل مع ذلك تصديق وعلم مع بغض ومعاداة، لكن تصديق ضعيف، وعلم ضعيف، ولكن لولا البغض والمعاداة لأوجب ذلك من محبة الله ورسوله ما يصير به مؤمنا، فمن شرط الإيمان وجود العلم التام".

ثم قال: "فالإيمان لابد فيه من هذين الأصلين:

التصديق بالحق، والمحبة له، فهذا أصل القول، وهذا أصل العمل.

ثم الحب التام مع القدرة يستلزم حركة البدن بالقول الظاهر، والعمل الظاهرة ضرورة، كما تقدم.

فمن جعل مجرد العلم والتصديق موجبا لجميع ما يدخل في مسمى الإيمان، وكل ما يسمى إيمانا، فقط غلط.

بل لابد من العلم والحب، والعمل شرط في محبة المحبوب، كما أن الحياة شرط في العلم، لكن لا يلزم من العلم بالشيء والتصديق بثبوته محبته إن لم يكن بين العالم والمعلوم معنى في الحب أحب لأجله، ومعنى في المحبوب كان محبوبا لأجله.

ولهذا كان الإنسان يصدق بثبوت أشياء كثيرة ويعلمها وهو يبغضها، كما يصدق بوجود الشياطين والكفار ويبغضهم.

فنفس التصديق بوجود الشيء لا يقتضي محبته، لكن الله سبحانه يستحق لذاته أن يحب ويعبد، وأن يحب لأجله رسوله، والقلوب فيها معنى يقتضي حبه وطاعته، كما فيها معنى يقتضي العلم والتصديق به.

فمن صدق به وبرسوله ولم يكن محبا له ولرسوله، لم يكن مؤمنا حتى يكون فيه مع ذلك الحب له ولرسوله.

وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب، ولازمه، ودليله، ومعلوله.

كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر.

لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه.

كما في الشجرة التي يضرب المثل لكلمة الإيمان بها، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم: ٢٤ - ٢٥]، وهي كلمة التوحيد.

فالشجرة كلما قوي أصلها وعروقها وروي، قويت فروعها، وفروعها أيضا إذا اغتذت بالمطر والريح أثر ذلك في أصلها.

وكذا الإيمان في القلب، والإسلام علانية، ولما كانت الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة كان يستدل بها عليها".

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وقال ابن مسعود أيضا: (إن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك: إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق).

وهذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه، وربما رفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة.

وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك، وقوة الإرادة والحركة، وإحداها أصل الثانية مستلزمة لها، والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها، فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل، وبالثانية يحب النافع الملائم له، ويبغض الضار المنافي له.

<<  <  ج: ص:  >  >>