للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به، ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة.

فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة، وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة، فأحبته واطمأنت إليه، وذلك هو المعروف، وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة، فأبغضته الفطرة، فأنكرته، قال تعالى: يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف: ١٥٧].والإنسان كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ((أصدق الأسماء حارث، وهمام)) (١)، فهو دائما يهم ويعمل، لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته.

ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنيا على اعتقاد باطل، إما في نفس المقصود، فلا يكون نافعا ولا ضارا، وإما في الوسيلة، فلا يكون طريقا إليه، وهذا جهل.

وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله، ويعمل أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى، أو دفع ألم آخر، جاهلا ظالما، حيث قدم هذا على ذاك ثم قال شيخ الإسلام:

"فكل بني آدم له اعتقاد، فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء، وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه، أو لوجود المحبوب عنده، أو لدفع المكروه عنه.

والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله، فإذا كذب بالحق فلم يصدق به، ولم يرج الخير فيقصده ويعمل به كان خاسرا بترك تصديق الحق وطلب الخير ثم قال:"فمبدأ العلم الحق والإرادة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان" (٢).

ويقول شيخ الإسلام: "والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره.

ومتى حصل هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج.

لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله، والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد.

وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام.

وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع، إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة. فإنه من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته، ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك" (٣).

ويقول: "فالتصديق الجازم في القلب يتبعه موجبه بحسب الإمكان، كالإرادة الجازمة في القلب، فكما أن الإرادة الجازمة في القلب إذا اقترنت بها القدرة حصل بها المراد أو المقدور من المراد لا محالة، ومتى كانت القدرة حاصلة ولم يقع الفعل كان الحاصل هما لا إرادة جازمة، وهذا هو الذي عفي عنه.


(١) رواه أبو داود (٤٩٥٠) , وسكت عنه, من حديث أبي وهب الجشمي رضي الله عنه, بلفظ: ( ... وأصدقها حارث وهمام ... ). قال ابن عبد البر في ((الاستغناء)) (١/ ٣٥٣): حسن, وذكر المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٣/ ١١٣): بأنه - لا ينزل عن درجة الحسن وقد يكون على شرط الصحيحين أو أحدهما-, وقال الألباني صحيح دون قوله: (تسموا بأسماء الأنبياء).
(٢) ((الفتاوى)) (٤/ ٣١ - ٣٤) مختصرا.
(٣) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٥٣، ص٤٤٤ - ٤٤٥) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((الإيمان)) (ص٦) ((الفتاوى)) (٧/ ١٠)؛ و ((الفتاوى)) (٣/ ٢٧٧)؛ و ((مجموعة الفتاوى الكبرى)) (٢/ ٢٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>