للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكذلك التصديق الجازم إذا حصل في القلب، تبعه عمل من القلب لا محالة، لا يتصور أن ينفك عنه، بل يتبعه الممكن من عم الجوارح.

فمتى لم يتبعه شيء من عمل القلب، علم أنه ليس بتصديق جازم، فلا يكون إيمانا. لكن التصديق الجازم قد لا يتبعه عمل القلب بتمامه؛ لعارض من الأهواء، كالكبر، والحسد، ونحو ذلك من أهواء النفس، لكن الأصل أن التصديق يتبعه الحب، وإذا تخلف الحب كان لضعف التصديق الموجب له" (١).

ويقول رحمه الله تعالى: "الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين: تصديق بالقلب، وإقراره، ومعرفته، ويقال لهذا قول القلب. قال الجنيد بن محمد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب (٢).

فلابد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله.

ولابد فيه من عمل القلب، مثل: حب الله ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان.

ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (٣).

وقال أبو هريرة: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. وقول أبي هريرة تقريب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيان، فإن الملك وإن كان صالحا، فإن الجنود لهم اختيار قد يعصون به ملكهم، وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب، فإن الجسد تابع له، لا يخرج عنه إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) (٤).

فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر. والظاهر تابع للباطن، لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد" (٥).

وفي موضع آخر لما ذكر حديث أبي هريرة المتقدم علق عليه بقوله:

"فبين - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فدل على أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمنا.

حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، كما قال عثمان.

وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله، ولا بفله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان.

وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه.

وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض، فالمتقضي لظهور موجبه قائم، والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون في بعض الأحوال متعذرا إذا كتم ما في قلبه، كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعا إلى الإيمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا في معرفة القلب وتصديقه.


(١) ((شرح الأصبهانية)) (٢/ ٥٨٣).
(٢) وانظر: ((مجموعة الفتاوى الكبرى)) (٢/ ٢٧١).
(٣) رواه البخاري (٥٢) , ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري (٥٢) , ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٥) ((الإيمان)) (ص١٧٦ – ١٧٧) ((الفتاوى)) (٧/ ١٨٦ - ١٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>