للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها قصد القلب وعزمه، إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده: هل يمكن أن لا يوجد شيء مما قصده وعزم عليه؟

فيه قولان: أصحهما: أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم، وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور، لكن يحصل معه مقدمات المقدور. وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر، وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جهم الذين نصروا قوله في الإيمان، كالقاضي أبي بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف، والأئمة، وعامة طوائف المسلمين" (١).

ويقول شيخ الإسلام: "أصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد.

وما كان في القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه، أو ضعفه. ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب، ودليل عليه، وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له، لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح" (٢).

ويقول: "والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، قبل هو تصديق القلب وعمل القلب ثم قال:

"فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء. وعند هؤلاء - يعني الجهمية وموافقتهم - كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطه عند جماهير العقلاء" (٣).

والحاصل من هذا التقرير المطول:

أن قول القلب إما أن يكون ضعيفا بحيث لا يستلزم عمل القلب، وحينئذ لا يكون هذا التصديق إيمانا، وإما أن يكون جازما، وحينئذ يستلزم عمل القلب لا محالة.

والإنسان مفطور على قول القلب المقتضي لعمله، مادامت الفطرة صحيحة، والقلب سليمان من المعارض المانع من عمله واستسلامه وانقياده، من الشبهات أو الشهوات، كالكبر، أو الحسد، أو الغفلة، أو طلب علو ورياسة أو كراه الإلف والعادة، ونحو ذلك من الأمراض التي مانعة من استسلام القلب، وانقياده، ومحبته.

فإذا وجد قول القلب وعمله لزم ضرورة أن يكون له أثر في الظاهر من القول والعمل. وقد قرر شيخ الإسلام أن "المؤثر التام يستلزم أثره، فمتى لم يحصل أثره لم يكن تاما، والفعل إذا صادف محلا قابلا تم، وإلا لم يتم" (٤).

وهذا معناه أن التام هو الذي يكون له أثر، وبتطبيق هذا على الإيمان يكون الإيمان التام هو الذي له أثر، فإذا لم يحصل له أثر فليس بتام.

والذي تحرر مما تقدم أن الإيمان الذي يستلزم أثرا هو ما اجتمع فيه قول القلب وعمله، وسلم من المعارض، فإنه حينئذ يستلزم أثرا في الظاهر من القول والعمل.

وعلى هذا فإن الإيمان الباطن يكون تاما إذا كان فيه أصل الإيمان - وهو قول القلب وعمله -، السالم من موانع الانقياد.


(١) ((الفتاوى)) (١٤/ ١٢١ - ١٢٢)، وانظر منها (١٤/ ١٢٠).
(٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٤٤).
(٣) ((الإيمان)) (ص١٤٢) ((الفتاوى)) (٧/ ١٤٨).
(٤) ((الإيمان)) (ص٢٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٥)، وساق رحمه الله أمثلة كثيرة على هذه القاعدة. انظر: ((الإيمان)) (ص١٦ - ٢٩) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٠ - ٣١)؛ و ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (٧/ ٥٣٩)، (ص٤٢٥) ط. ابن الجوزي؛ و ((الفتاوى)) (١٦/ ١٧٩ - ١٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>