للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعلماؤهم وأئمتهم أحسنهم قولا، وهو أن قالوا: الإيمان تصديق القلب، وقول اللسان. وقالت الجهمية: هو تصديق القلب فقط، وقالت الكرامية: هو القول فقط" (١).ويقول: "ولهذا كانت المرجئة تنفر من لفظ النقص أعظم من نفورها من لفظ الزيادة؛ لأنه إذا نقص لزم ذهابه كله عندهم" (٢).فبناء على هذا الأصل منع المرجئة زيادة الإيمان ونقصانه، وفسروا الزيادة والنقصان بأن المراد زيادة الأعمال الظاهرة ونقصانها، وهي عندهم ليست من الإيمان، فتكون زيادة الإيمان ونقصانه عندهم زيادة ثمراته ونتائجه (٣).

وأما عند أهل السنة، فإن الزيادة والنقصان تدخل فيما يؤمر به المكلف من أمر ونهى، وفيما يقع منه من قول وعمل، ظاهر وباطن.

يقول شيخ الإسلام بعد حكاية قول الجهمية والمرجئة الفقهاء في مسمى الإيمان:

"وأنكر كل هذه الطوائف أنه ينقض، والصحابة قد ثبت عنهم أن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول أئمة السنة، ... ،

وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل مع وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد" (٤).

ثم شرع رحمه الله في شرح التفاضل في هاتين الجهتين على النحو التالي:

الجهة الأولى: وقوع التفاضل من جهة أمر الرب.

يقول شيخ الإسلام شارحا التفاضل في هذا الوجه:

"فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص.

فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به، كالقبلة، فكان من الإيمان في الأمر الأول الإيمان بوجوب استقبال بيت المقدس، ثم صار من الإيمان تحريم استقباله ووجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة.

وأيضا من وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل.

وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة وجب عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها.

فلم يتساوى الناس فيما أمروا به من الإيمان، وهذا من أصول غلط المرجئة، فإنهم ظنوا أنه شيء واحد، وأنه يستوي فيه جميع المكلفين، فقالوا:

إيمان الملائكة والأنبياء وأفسق الناس سواء، كما أنه تلفظ الفاسق بالشهادتين أو قرأ فاتحة الكتاب كان لفظه كلفظ غيره من الناس.

فيقال لهم: قد تبين أن الإيمان الذي أوجبه الله على عباده يتنوع ويتفاضل، ويتباينون فيه تباينا عظيما.

فيجب على الملائكة من الإيمان ما لا يجب على البشر، ويجب على الأنبياء من الإيمان ما لا يجب على غيرهم، ويجب على العلماء ما لا يجب على غيرهم، ويجب على الأمراء ما لا يجب على غيرهم.

وليس المراد أنه يجب عليهم من العمل فقط، بل ومن التصديق، والإقرار، فإن الناس وإن كان عليهم الإقرار المجمل بكل ما جاء به الرسول، فأكثرهم لا يعرفون تفصيل كل ما أخبر به وما لم يعلموه كيف يؤمرون بالإقرار به مفصلا، وما لم يؤمر به العبد من الأعمال لا يجب عليه معرفته ومعرفة الأمر به.


(١) ((الفتاوى)) (١٣/ ٥٥).
(٢) ((الإيمان)) (ص٣٨٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٤)؛ ونحوه في: ((الفتاوى)) (٢٠/ ٨٦)؛ و ((النبوات)) (١/ ٥٨٠).
(٣) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٦٢، ص٤٥٨) ط. ابن الجوزي؛ و ((الإيمان)) (ص٣٩٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٨)؛ و ((الفتاوى)) (٧/ ٦٧١ - ١٨/ ٢٧١).
(٤) ((الفتاوى)) (١٣/ ٥٠ - ٥١).

<<  <  ج: ص:  >  >>