للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولاً: في وصفه للإمام البخاري بأنه "يعدونه من أمراء المؤمنين في الحديث" إشارة إلى أنه ليس معدوداً عندهم كذلك ولا يقول هذا إلا مكابر ممرض، والبخاري رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث وإمامهم رغم بغض شانئيه، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. ثانياً: وصفه للبخاري رحمه الله بأنه "يتبجح" وقد جاء في تهذيب اللغة للأزهري في مادة "بجح" عن الليث وغيره: فلان يتبجح بفلان ويتمجح إذا كان يهذي به إعجاباً (١).

قلت: فاختيار هذه الكلمة دون غيرها في وصف أمير المؤمنين في الحديث وقدوة الموحدين والمقدم على أضرابه وأقرانه يدل على قلة ورع قائله وسوء أدبه وبذائه أسلوبه وسلاطة لسانه مع العلماء وخاصة مع الأكابر منهم، وليس هذا بغريب من الكوثري فله قصب سبق في هذا المضمار، بل هو فارس هذا الميدان وحامل لوائه، وسبابه وشتائمه لأئمة الدين وهداة الإسلام لا تحصى إلا بكلفه، ومن ألقى نظرة عاجلة في بعض مؤلفاته أو تعليقاته علم ذلك.

ثالثاً: اعتراضه على البخاري في قوله بأنه لم يخرج من صحيحه عمن يرى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، مع أنه أخرج فيه عن غلاة الخوارج ونحوهم.

قلت: روى قول البخاري المتقدم عنه وراقه محمد بن أبي حاتم قال سمعته - أي البخاري - يقول دخلت بلخ، فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه حديثاً، فأمليت ألف حديث لألف رجل ممن كتبت عنهم. قال: وسمعته قبل موته بشهر يقول: كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس فيهم غلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (٢).

قلت: وهذا الذي سماه الكوثري: "تبجحاً" يعد في معيار العدل والإنصاف ميزة ومنقبة لكتاب البخاري الصحيح؛ لأن عدم الرواية عن مثل هؤلاء وإن كانوا حفاظاً فيه إخماد لبدعتهم وإطفاء لنارها. قال بن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخماداً لبدعته وإطفاءاً لناره، وغن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره" (٣).

إذن فماذا يضير البخاري رحمه الله إن ترك الرواية عن مثل هؤلاء وتمدح بفعله هذا ليكون في عمله هذا إخماداً لهذه البدعة وعدم نشر لها ولا سيما وأن تخرج البخاري لأي راو في صحيحه مقتض لعدالته عنده، فإن ترك البخاري رحمه الله الرواية عن مثل هؤلاء - على بحث عند أهل العلم في جواز الرواية عنهم أو عدم جوازها - سائغ لتيسر الرواية عنده عن غيرهم ممن شاركوهم في الرواية لتلك الأحاديث، وفارقوهم في عدم الابتداع، ولما في عمله هذا من مصلحة إخماد البدعة وعدم تقديم أهلها وإبرازهم. ولأمر آخر وهو أن أهل البدع كما سماهم السلف: "أصحاب أهواء" وأتباعهم لأهوائهم في الجملة ظاهر، فلربما يكذب ويتجرأ على الكذب لينتصر لهواه - كما سبق أن مر معنا عن بعض هؤلاء - ولهذا المعنى قال علي بن حرب الموصلي: "كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي" قال المعلمي معلقاً عليه "يريد والله أعلم أنهم مظنه ذلك فيحترس من أحدهم حتى يتبين براءته" (٤).وأمر آخر أيضاً وهو أن البخاري رحمه الله لم يخرج في صحيحه عمن كان داعية إلى بدعته، وإنما خرج عمن كان مستتراً بها غير مظهر لها، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولهذا لم يخرج أهل الصحيح لمن كان داعية، ولكن رووا هم وسائر أهل العلم عن كثير ممن كان يرى في الباطن رأي القدرية والمرجئة والخوارج والشيعة" (٥).


(١) ((تهذيب اللغة)) (٤/ ١٦٤).
(٢) ((سير أعلام النبلاء)) (١٢/ ٣٩٥).
(٣) ((التنكيل)) (١/ ٤٩).
(٤) ((التنكيل)) (١/ ٤٤).
(٥) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>