للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد شهدت جزيرة العرب شروق شمس الإسلام؛ غير أنه لم يبق محصورا في هذه الجزيرة إذ ما لبث المسلمون أن خرجوا منها غازين فأخضعوا لسلطانهم معظم أقطار الشرق الأدنى، وقد وجدوا في البلاد التي فتحوها أقواما يدينون بديانات شتى.

ففي الشام ومصر عمت المسيحية واليهودية، وفي العراق وفارس غلبت المجوسية بفرقها المتعددة كالثنوية والزرادشتية والمانوية والمزدكية. . فكان لزاما على المسلمين أن يعيشوا بين أرباب تلك الأديان، وكان لابد لهم من الاتصال المستمر بهم، فتأثروا بآرائهم وأفكارهم، وتسرب إلى الإسلام من عقائدهم نتيجة ذلك الاحتكاك والتأثر المتواصلين ما كان أئمة السلف لا يقرونه، ولا يرضون به. وقد تم ذلك التأثر بطرق مختلفة، منها: ترجمة بعض الكتب القديمة مما أثر على الفرس والهنود واليونان والرومان، وكان في هذه الكتب من العلوم والفلسفات ما أثر على عقائد المسلمين، وجرهم إلى مناظرات كان للمعتزلة النصيب الأكبر منها؛ إذ أن لهم مدخل في علم الكلام. ومنها: دخول أهل الملل الأخرى في الإسلام؛ حيث جاءوا بمعارف مختلفة أثرت على عقائد المسلمين، وقد انقسم هؤلاء الداخلون في الإسلام أقساما، منهم: من دخل في الإسلام وترك معتقداته القديمة، لكنه نقل بعض تلك المعتقدات عن غير عمد، ونشرها بين أهله، فكان لها دورها في التأثير على عقائد المسلمين. ومنهم: من اعتنق الإسلام لا عن إيمان به، وإنما لغايات في نفوسهم، فعل بعضهم ذلك طمعا في مال يجنيه أو جاه يناله، وأقدم البعض الآخر عليه بدافع الحقد على المسلمين الذين هزموا دينهم وهدموا ملكهم، فأظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته، فدئبوا على محاربته والكيد له، فكانوا خطرا عليه كبيرا لأنهم ما انفكوا ينفثون فيه ما في صدورهم من الغل والغيظ، ويروجون بين أبنائه من الأفكار ما لا تقره العقيدة الإسلامية حبا في تشويه تلك العقيدة، ورغبة في إفسادها، كما أن هناك من تمسكوا بأديانهم الأصلية، لأن الإسلام منحهم حرية العبادة، ولم يتدخل في شئونهم الخاصة ما داموا يدفعون الجزية.

ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية وتوسعت أعمالها في عهد بني أمية، ولما لم يكن للعرب قدرة كافية في أمور الإدارة، فإنهم اضطروا إلى أن يعتمدوا في تصريف شئون البلاد على أهل الأمصار المتعلمين الذين اقتبسوا من مدنية الفرس وحضارة البيزنطيين، فأسندوا إليهم أعمال الدواوين، وهكذا كانوا يحيون بين ظهراني المسلمين، ويحتكون دوما بهم، والاحتكاك يؤدي إلى تبادل الرأي، والآراء سريعة الانتقال.

بعد هذه المقدمة نبين أثر الديانات الأخرى في ظهور الاعتزال.

<<  <  ج: ص:  >  >>