للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معلوم أن أرباب تلك الديانات أثاروا بين المسلمين مسائل إلهية هامة لم تكن لتخطر لهم، غير أن السلف تخوفوا منها وتجنبوها، وحظروا على الناس الخوض فيها؛ لأنهم كانوا يرون في الكتاب والسنة ما يكفيهم في حياتهم، فلا ضرورة لأن ينصرفوا إلى أبحاث دينية أخرى خارجة عنهما؛ إلا أن ترك البحث في تلك المسائل الإلهية لم يدم طويلا، فسرعان ما قام من بين المسلمين رجال كان عندهم شيء من الجرأة، وحب الاستطلاع، فأقبلوا عليها يدرسونها ويقابلونها بتعاليمهم الإسلامية أولئك الرجال هم المعتزلة وأسلافهم القدرية أو الجهمية. قد كان لليهود بلا شك بعض الأثر في ظهور المعتزلة، فهم الذين نشروا المقالة في خلق القرآن، يروي ابن الأثير (١) أن أول من نشرها منهم هو لبيد بن الأعصم – عدو النبي صلى الله عليه وسلم – الذي كان يقول بخلق التوراة؛ ثم أخذ ابن أخته طالوت هذه المقالة عنه، وصنف في خلق القرآن، فكان أول من فعل ذلك في الإسلام، وكان طالوت هذا زنديقا فأفشى الزندقة (٢). وذكر الخطيب البغدادي (٣): أن بشرا المريسي (٤) المرجئ المعتزلي أحد كبار الدعاة إلى خلق القرآن، كان أبوه يهوديا، صباغا في الكوفة (٥). لكن الديانة التي كان لها أثرها في ظهور الاعتزال أكبر من غيرها هي المسيحية. والأدلة على تأثر المعتزلة بالمسائل الإلهية التي أثارها المسيحيون كثيرة منها:١ - أن الأمويين قربوهم إليهم، واستعانوا بهم، وأسندوا إليهم بعض المناصب العالية، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان سرجون بن منصور الرومي المسيحي كاتبه وصاحب أمره (٦).وبعد أن قضى معاوية بقيت لسرجون مكانته، فكان يزيد يستشيره في الملمات ويسأله الرأي (٧) ثم ورث تلك المكانة ولده يحيى الدمشقي (٨) الذي خدم الأمويين ثم اعتزل العمل سنة (١١٢هـ) والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية، ويصنف الكتب (٩).إن احتكاك المسلمين بأولئك المسيحيين لا يمكن أن يكون قد مضى دون أن يترك فيهم أثرا، فكيف إذا تجاوز الأمر حد التجاوز، واشترك المسلمون والمسيحيون في مناظرات دينية، وطال بينهم الجدل، هؤلاء يؤيدون دينهم، وأولئك يبرهنون على صحة معتقدهم؛ أقول ذلك، لأننا نستدل من كتابات يحيى الدمشقي وأمثاله من المسيحيين، فقد ورد منها نماذج محاورات جرت بين المسلمين والمسيحيين، واشترك فيها يحيى الدمشقي، وكان يبدأوها على هذا النحو: إذا قال لك العربي كذا وكذا فأجبه بكذا. . وأشار المستشرق سكيفورت إلى تلك النماذج، فقال: إن من جملة الكتب التي صنفها يحيى الدمشقي كتاب في الدفاع عن النصرانية وضعه في شكل محاورة بين عربي ومسيحي، والذي يظهر من كل هذا أن الأمويين الأوليين كانوا متسامحين في الدين، فلم يمانعوا في قيام مناقشات من هذا النوع، وقد توقفت تلك المناقشات مدة طويلة، ثم استؤنفت في زمن المأمون الذي كان أكثر من الأمويين تسامحا، بل إنه ليشجعها (١٠) فقد جاء في نفح الطيب أنه حدثت مناظرة بين العتابي (١١)


(١) ((تذكرة الحفاظ)) (٤/ ١٨٥)، ((الكامل في التاريخ)) (١/ ٩).
(٢) ((الكامل في التاريخ)) (٧/ ٤٩)، ((المعتزلة)) (٢١).
(٣) ((تذكرة الحفاظ)) (٣/ ٣١٢)، ((معجم الأدباء)) (٤/ ١٣).
(٤) ((لسان الميزان)) (٢/ ٢٩)، ورد الإمام الدارمي على بشر المريسي (المقدمة).
(٥) ((تاريخ بغداد)) (٧/ ٦١).
(٦) ((الطبري)) (٦/ ١٨٣)، ((الكامل)) (٤/ ٧)، ((المعتزلة)) (٢٣).
(٧) ((تاريخ الأمم والملوك للطبري)) (٦/ ١٩٤، ١٩٩).
(٨) ((المعتزلة)) (٢٣) الحاشية.
(٩) ((المعتزلة)) (٢٣).
(١٠) ((المعتزلة)) (٢٥).
(١١) ((الأعلام)) (٦/ ٨٩)، ((معجم الأدباء)) (٦/ ٢١٢) ..

<<  <  ج: ص:  >  >>