للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من هذا العرض اتضح لنا أن للديانات الأخرى أثر في نشأة المعتزلة وخصوصا اليهودية والمسيحية، وأن أثر المسيحيين أكثر من غيره. ومن الضروري أن نذكر في هذا الصدد أن المعتزلة لم يتأثروا في بادئ الأمر بأرباب الديانات الأخرى مباشرة، فقد سبقهم جماعة اطلعوا على عقائد المسيحية واليهودية وأخذوا يدرسونها ويتحدثون عنها، وهم فرقتان: فرقة قالت بخلق القرآن ونفي الأزلية، وأخرى قالت بنفي القدر. وأول رجال الفرقة الأولى: هو الجعد بن درهم (١) الذي أظهر مقالته في زمن هشام بن عبد الملك. وعن الجعد أخذ الجهم بن صفوان أكثر أقواله، وكان الجهم جبريا لا يثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا، وكان فوق ذلك ينفي الصفات، ويقول بخلق القرآن وفناء الجنة والنار، وفناء حركات أهلهما، وإنكار الرؤية السعيدة، وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع، فانتشرت مقالته بـ (ترمذ) من أعمال خراسان (٢).أما الطائفة الثانية: فهي القدرية التي كانت تثبت للإنسان قدرة على أفعاله، وحرية في اختيارها، وأول رجالها عمر المقصوص المتوفى سنة (٨٠هـ) الذي ظهر بدمشق، وكان أستاذا للخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية، فقتله الأمويون بتهمة إفساد الخليفة (٣). ويأتي بعده معبد الجهني الذي تكلم بالقدر في البصرة، وكان يجالس الحسن البصري فاقتدى به جماعة من المسلمين، منهم عمرو بن عبيد المعتزلي، وقد سلك أهل البصرة مسلكه في نفي القدر حينما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، ولما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان (٤).ومن رجال القدرية غير المقصوص والجهني غيلان الدمشقي الذي أخذ القول بنفي القدر عن معبد الجهني وتمادى فيه فأحضره عمر بن عبد العزيز – الخليفة الأموي العادل تولى الخلافة سنة (٩٩هـ)، وتوفي سنة (١٠١هـ) – ووبخه وبلغه بعد ذلك أن غيلان أسرف في القدر، فاستدعاه إليه، وامتحنه، وكان يود أن يذبحه لو لم يتراجع غيلان ويعلن توبته، فأمر عمر بن عبد العزيز بالكتابة إلى سائر الأعمال بخلاف ذلك، فأمسك غيلان عن الكلام إلى أن مات الخليفة عمر، فسأل في القدر، فجاء به هشام بن عبد الملك، وكان شديدا على القدرية فامتحنه فأقر بنفي القدر، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، فمات وصلب على باب دمشق، ويقال: أن هشاما صلبه حيا (٥).وهكذا فبينما الجعد ومن تبعه يقولون بخلق القرآن ونفي الصفات في الشام والعراق، والجهمية في خراسان، تقول أيضا: بقولهما، والقدرية في البصرة تنفي القدر وتدافع عن حرية الإنسان في اختيار أفعاله، ظهرت المعتزلة في البصرة التي كانت كما وصفها الحافظ الذهبي (٦) (عشر القدر) (٧). تحت تأثير التيارات الفكرية المختلفة التي وجدوها، وكانت تعاليمهم خليطا من أقوال القدرية والجهمية، فإنهم وافقوا القدرية في نفي القدر، ووافقوا الجهمية في جميع أقوالها ما عدا الجبر، فإنهم خالفوها فيه، وتحاملوا عليه، ولا شك في أن المعتزلة كانوا متأثرين بتلك العقائد التي انتهت إليهم تأثرا قويا، مؤمنين بها إيمانا شديدا، وإلا لما كانوا تمسكوا بها، وهم يرون الأمويين يبطشون بأصحابها ويتتبعونهم بالتعذيب والقتل.


(١) ((الأعلام)) (٢/ ١٤٤).
(٢) ((الملل والنحل)) (١/ ٧٩)، ((سرح العيون)) (١٥٩)، ((شذرات الذهب)) (١/ ١٦٩)، ((المعتزلة)) (٢٤)، بتصرف.
(٣) ((تأويل مختلف الحديث)) (٩٨)، ((مختصر الدول لابن العبري)) (١٩١).
(٤) ((الخطط)) (٤/ ١٨١)، ((المعتزلة)) (٣٤)، بتصرف.
(٥) ((كتاب المعارف)) (١٦٦)، ((سرح العيون)) (١٥٧)، ((المعتزلة)) (٣٥)، بتصرف.
(٦) ((شذرات الذهب)) (٦/ ١٥٣، ١٥٧)، ((معجم المؤلفين)) (٨/ ٢٨٩، ٢٩٠).
(٧) ((ميزان الاعتدال)) (٢/ ٢٠٧)، ((المعتزلة)) (٣٥)، بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>