للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد ذهبت الجهمية وانقرضت القدرية، ولكن تعاليمهما بقيت محفوظة في فرقة المعتزلة التي أخذت تلك التعاليم وشرحتها وتوسعت فيها؛ ولهذا يمكننا أن نعتبر المعتزلة ورثة الجهمية والقدرية، وعلى الأخص القدرية، لأن الجهمية كانت مخالفة للمعتزلة في مسألة القدر، ولأنها انحصرت في (نهاوند) وعمرت مدة طويلة بعد قيام المعتزلة، أما القدرية فلم يكن بينها وبين المعتزلة شيء من الخلاف، وقد اندمجت بهم حال ظهورهم، فأصبح القدرية والمعتزلة فرقة واحدة (١).

وبهذا يتضح أن المعتزلة قد تأثروا بالديانات الأخرى وخصوصا اليهودية والمسيحية لكن بطريق غير مباشر. والله أعلم.

٣ - مناصرة بني العباس لهم:

لقد ظهرت المعتزلة في العصر الأموي، وكانوا قد أدركوا نقطة الضعف في الفرق التي خرجت قبلهم كالقدرية الذين تعرضوا لنقمة الخلفاء الأمويين، وتتبعوا بالقتل والتشريد؛ لذا علموا أنه لا بقاء لهم ما لم يوجدوا قوة كبيرة تساندهم وتشد أزرهم فخطر لهم أن يستعينوا بالسلطة الحاكمة، ويستميلوها إلى جانبهم؛ فبذلك يمكن أن يعيشوا آمنين، ويظهروا آراءهم بلا خوف ولا وجل، فتم لهم ما أرادوا، ولكن بعد جهاد طويل دام ما يقارب قرنا من الزمان؛ لذا راحوا يلقون على الخلفاء شباكهم، فنراهم يلتفون حول اليزيد بن الوليد بن عبد الملك. قال الطبري: إن اليزيد كان قدريا (٢). وروى الحافظ الذهبي: أن اليزيد حين ولي الخلافة دعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه (٣). وجاء في مروج الذهب أن اليزيد كان يذهب إلى قول المعتزلة في الأصول الخمسة (٤). كذلك التفوا حول مروان بن محمد – آخر خلفاء بني أمية –؛ يقول ابن الأثير: إن مروان كان يلقب بالجعدي، لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في خلق القرآن، ونفي القدر (٥)، فكان الناس يذمونه بنسبته إلى الجعد. وذكر ابن القيم أن كلام الجعد نفق عند الناس، لأنه كان معلم مروان وشيخه؛ ومع ذلك فإن المعتزلة بقوا كما قال ابن القيم قليلين مذمومين (٦).ولما مضى الأمويون، وابتدأ حكم العباسيين أخذ المعتزلة يرفعون رؤوسهم في حكم أبي جعفر المنصور – ثاني خلفاء بني العباس – ذلك أن عمرو بن عبيد كان صديقا لأبي جعفر المنصور قبل أن يتولى الخلافة، دخل عمرو على المنصور يوما فوعظه فأبكاه، فقال المنصور: فأصنع ماذا؟ ادع لي أصحابك أولهم!،فأجاب عمرو: ادعهم أنت بعمل صالح تحدثه. وهذا يدل على أن لعمرو مكانة عند المنصور. ثم خفت صوت المعتزلة في زمن المهدي ابن المنصور لأنه كان شديدا على الزنادقة والمخالفين، فقد جد سنة (١٦٧هـ) في طلبهم، والبحث عنهم، وعين لذلك موظفا خاصا وقتل منهم جماعة. . ولما بدأ عصر الرشيد بدأوا يرفعون رؤوسهم ثانية، فإنا نجد الرشيد يقرب بعض رجالاتهم، فإنه حين قدم ثمامة بن أشرس (٧) بغداد، اتصل بالرشيد، واتصل به أيضا يحيى بن المبارك (٨) اليزيدي، وكان مؤدبا لولده المأمون. يقول ياقوت الحموي (٩): إن يحيى بن المبارك كان يتهم بالاعتزال. وروى أن محمد بن مناذر (١٠) – أحد النساك – هجا المعتزلة في زمن الرشيد، فنفوه من البصرة إلى الحجاز، فإن صحت هذه الرواية، فإنها تدل على أن للمعتزلة في زمن الرشيد سلطة مكنتهم من القيام بمثل هذه الأعمال، والانتقام من أعدائهم.


(١) ((الفرق بين الفرق)) (٢١٢)، ((المعتزلة)) (٣٥)، بتصرف.
(٢) ((تاريخ الأمم والملوك)) (٩/ ٤٦).
(٣) ((دول الإسلام)) (١/ ٩٥).
(٤) ((مروج الذهب)) (٦/ ٢٠).
(٥) ((الكامل لابن الأثير)) (٦/ ١٧١).
(٦) ((الصواعق المرسلة)) (١/ ٢٣٠).
(٧) ((التبصير في الدين)) (٧٤)، ((الفرق بين الفرق)) (١٧٢).
(٨) ((وفيات العيان)) (٢/ ٢٣٠)، ((تاريخ بغداد)) (١٤/ ١٤٦).
(٩) ((سير النبلاء)) (١٣/ ١٩٧).
(١٠) ((بغية الوعاظ)) (١٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>