للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورغم كل هذا: فإن المعتزلة لم يجسروا على نشر مقالاتهم، والجهر بآرائهم، لأن الرشيد كان شديدا في أمور الدين؛ ومع هذا فإن الدور الذي لعبه المعتزلة في زمن الرشيد كان عظيم الأهمية بالنسبة إلى مستقبلهم، فإنه مهد لهم السبيل إلى قصر الخليفة، وجعل من بعضهم أصدقاء ووعاظا ومؤدبين لأولاده؛ وبذلك شاع ذكرهم، وتوسع نفوذهم. وفي خلافة الأمين؛ انكمش نفوذهم لأنه كان أشد من أبيه في مسائل الدين. يقول ابن القيم: إن الأمين أقصى الجهمية وتتبعهم بالحبس والقتل، فاستمروا مضطهدين إلى أن قتل الأمين وخلفه أخوه المأمون، فابتسم لهم الدهر، وانتهى إليهم الأمر، وبدأ دور عزهم وقوتهم، فقد كان يعتبر نفسه من علماء المعتزلة فشايعهم وقربهم، وجعل منهم حجابه ووزراءه، وكان يعقد المناظرات بينهم وبين الفقهاء لينتهوا إلى رأي متفق، واستمر على ذلك حتى إذا كانت سنة (٢١٨هـ) وهي السنة التي توفي فيها, انتقل من المناظرات العلمية إلى التهديد بالأذى الشديد، بل إنزاله بالفعل؛ وذلك برأي وتدبير وزيره وكاتبه أحمد بن أبي داود (١) المعتزلي، فقد كانت فيه المحاولة بالقوة لحمل الفقهاء والمحدثين على رأي المعتزلة، وما كانت قوة الحكم لنصر الآراء، وحمل الناس على غير ما يعتقدون. وإذا كان من المحرم الإكراه في الدين، فكيف يحل حمل الناس على عقيدة ليس في مخالفتها انحراف عن الدين؟! بل العكس في متابعتها الانحراف. لقد حاول أن يحمل الفقهاء على القول بأن القرآن مخلوق، فأجابه بعضهم إلى رغبته تقية ورهبة لا عن إيمان واعتقاد واقتناع بما حملوا عليه، وتحمل آخرون العنت والإرهاق والسجن الطويل، ولم يقولوا غير ما يعتقدون، استمرت تلك الفتنة طوال مدة المعتصم والواثق؛ وذلك لوصية المأمون بذلك وزاد الواثق الإكراه على نفي الرؤية، كرأي المعتزلة، ولما جاء المتوكل رفع المحنة وترك الأمور تأخذ سيرها، والآراء تجري مجراها؛ بل إنه اضطهد المعتزلة ولم ينظر إليهم نظرة راضية. وهذا العامل بلا شك أهم العوامل التي ساعدت على بروز المعتزلة وانتشارهم، بل وجعل لهم المكانة في المجتمع، وأصبح مذهبهم معترفا به عند الناس، ونمى آراءهم وشعبها، فبعد أن كانت محصورة في مبادئ قليلة؛ كثرت وتشعبت، وأضيفت إليها زيادات لم تكن موجودة قبل ذلك (٢).

٤ - الدفاع عن الدين الإسلامي:


(١) ((وفيات الأعيان)) (١/ ٦٣).
(٢) ((المذاهب الإسلامية)) (٢١٩)، ((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (٤٨)، ((تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون)) (٢٨٨)، ((المعتزلة)) (١٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>