للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن قالوا ليست معانيا ولا محدودة ومتميز بعضها عن بعض، ولا لها مسميات؛ قيل لهم: فهذا هو معنى العدم حقا، فلم قلتم أنها ليست معدومة؟!، فإن قالوا: هي معان. . ولها مسميات محدودة متميز بعضها عن بعض: قيل لهم: هذه صفة الموجود، فلم قلتم أنها ليست موجودة؟! وبذلك يبطل قولهم: إنها ليست موجودة ولا معدومة، ويقال لها أيضا: هذه الأحوال أتقولون أنها معقولة أم لا؟.

إن قالوا: إنها معقولة كانوا قد أثبتوا لها معاني وحقائق من أجلها عقلت؛ فهي موجودة لأن المعدوم ليس معقولا، ويقال لهم: هل الأحوال في اللغة وفي المعقول إلا صفات لدى حال؟ وهل الحال في اللغة إلا بمعنى التحول من صفة إلى أخرى؟ يقال: هذه حال فلان اليوم، وكيف كانت حالك بالأمس، فإذا كان الأمر هكذا ولا بد فهذه الأحوال موجودة حقا مخلوقة ولا بد، فظهر فساد قولهم أنها غير مخلوقة، ثم قال: ونقول لهم: قلتم: أنها لا حق ولا باطل، وكل ذي حس سليم يعلم أن كل ما لم يكن حقا فهو باطل، وما لم يكن باطلا فهو حق، هذا الذي لا يعقل غيره. قوله تعالى: فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس: ٣٢].

وقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: ٨]. وقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر: ٩]. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: ٢]. فقد قطع الله تعالى أنه ليس إلا حق أو باطل، وليس إلا علم أو جهل، وهو عدم العلم، وليس إلا وجود أو عدم، وليس إلا شيء مخلوق أو الخالق أو لفظة العدم التي لا تقع على شيء. . فقد أكذبهم الله في دعواهم ولا يشك ذو حس سليم أن ما لم يكن باطلا فهو حق، وما لم يكن حقا فهو باطل، وما لم يكن معلوما فهو مجهول، وما لم يكن مجهولا فهو معلوم، وما لم يكن شيئا فهو لا شيء، والعكس كذلك وما لم يكن موجودا فهو معدوم، وما لم يكن معدوما فهو موجود. . هذا كله معلوم بالضرورة ولا يعقل غيره. . ثم قال: ولا فرق بين ما قالوه في هذه القضية، وبين القول اللازم لهم ضرورة، وهو أن تلك الأحوال معدومة موجودة معا معلومة مجهولة معا. وهذا هو نفس قولهم ومقتضاه؛ لأنهم إذا قالوا: ليست حقا فقد أوجبوا أنها باطل، وإذا قالوا: ولا هي باطل فقد أوجبوا أنها حق، وهكذا في سائر ما قالوا. . " (١).

واجتماع المتضادين معلوم بالضرورة بطلانه فما يؤدي إليه مثله.

ثانيا: يقال لهم: هذه الأحوال لا تخلو إما أن تكون غير معلومة أو معلومة.

إن كانت غير معلومة فلا سبيل إلى معرفتها والدلالة عليها، والعلم بأنها لزيد دون عمرو؛ لأن ما ليس بمعلوم لا يصح قيام دليل عليه، ولا أن يعلم اضطرارا، ولا أن يعلم أنه لزيد دون عمرو؛ لأن العلم بأن الحال حال لفلان فرع عن العلم بالحال.

وكذلك العلم بأنها معلومة بالاستدلال دون الاضطرار فرع للعلم بها جملة، فإذا استحال العلم بها جملة، استحال العلم بأنها لفلان دون فلان، وأنها معلومة بالاستدلال دون الاضطرار.

ومما يدل على فساد قولكم أنها غير معلومة، أنه لا يخلو العلم بأن النفس على الحال من أن يكون علما بالنفس فقط دون الحال أو علما بالحال فقط دون النفس أو علم بهما جميعا أو علما لا بالنفس ولا بالحال.


(١) ((الفصل)) (٥/ ٥١)، بتصرف، ((الفرق بين الفرق)) (١٩٦)، ((نهاية الإقدام)) (١٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>