للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثالثاً: يقول الشهرستاني - وهو يرد على الجبائي ومن معه -: "نحن ندرك تفرقة ضرورية بين كون الإنسان سميعاً، وبين كونه بصيراً، وهما متفقان في أن معنى كل واحد منهما أنه حي لا آفة به، فهذه التفرقة ترجع إلى ماذا؟ فلابد من أمرين زائدين على كونه حياً لا آفة به حتى يكون بأحدهما سميعاً، وبالثاني بصيراً، وإلا فتبطل التفرقة الضرورية فالذي انفصل به السمع عن البصر وراء كونه حياً لا آفه به، فكذلك الذي انفصل به السمع والبصر عن العلم وسائر الصفات وراء كونه حياً لا آفه به. ثم قال - أي: الشهرستاني-: ولئن ألزم الجبائي بأن يقال معنى كونه عالماً قادراً أنه حي لا آفة به حتى يرد الصفات كلها إلى كونه حياً لا آفه به لم يجد عن هذا الإلزام مخلصاً (١).رابعاً: ويقول الآمدي - في معرض رده على الجبائي ومن معه من البصريين -: "إن العقل السليم يقضي بفساد قول من فسر السمع والبصر بنفي الآفة دون العلم والقدرة وغيرها من الصفات، مع أنه لو سئل عن الفرق لم يجد عنه مخلصاً، بل كل ما تخيل من منع تفسير العلم والقدرة بانتفاء الآفة فهو بعينه في الإدراك حجة لنا" (٢).

من مجموع هذه الردود يتضح بطلان رأي الجبائي ومن معه من البصريين في تفسيرهم "السميع البصير" بالحي الذي لا آفة به. والله أعلم.

ثالثا: الرد على البغداديين في تأويلهم صفتي السمع والبصر بالعلم:

عرفنا - فيما سبق - أن النظام، والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين أنهم يرون؛ أن المراد بوصف الله بالسمع والبصر؛ إنما المراد به العلم، فقولنا: الله سميع بصير، أي: عليم. وهذا القول ظاهر البطلان لما يلي:-١ - أن في هذا التأويل نفي لصفتي السمع والبصر قائمتين بذاته حقيقة، وتأويل لهما بالعلم، مع أنه روى أبو هريرة - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء: ٥٨] فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه)) (٣).ويقول ابن القيم - رحمه الله -: "وإنما فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - رفعاً لتوهم متوهم أن السمع والبصر غير العينين المعلومتين ... " (٤).ويقول البيهقي - بعد أن أورد هذا الحديث للدلالة على ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى - قال: "والمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله - عز وجل - بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا؛ لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى، كما يقال: قبض فلان على مال لفلان، ويشار باليد على معنى أنه حاز ماله، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير له سمع وبصر حقيقيان، لا على معنى أنه عليم؛ إذ لو كان بمعنى العلم، لأشار في تحقيقه إلى القلب، لأنه محل العلوم منا، وليس في الخبر إثبات الجارحة تعالى الله عن شبه المخلوقين علواً كبيراً ... " (٥).

فدل هذا الحديث على ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى حقيقة، وبطلان تأويلهما بالعلم.

٢ - إن ألفاظ الشرع؛ إنما تصرف عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأفهام إذا كان يستحيل تقديرها على الموضوع، ولا استحالة في كونه سميعاً بصيراً، بل يجب أن يكون كذلك، فلا معنى للتحكم بإنكار ما فهمه أهل الإجماع من القرآن.


(١) ((نهاية الإقدام)) (ص٣٤٧).
(٢) ((غاية المرام في علم الكلام)) (ص١٢٨، ١٢٩).
(٣) رواه أبو داود (٤٧٢٨) وسكت عنه, وقد قال في ((رسالته لأهل مكة)) كل ما سكت عنه فهو صالح. قال الحافظ في ((الفتح)) (١٣/ ٣٨٥): إسناده قوي على شرط مسلم.
(٤) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص٤٦٠ - ٤٦١).
(٥) ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (ص١٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>