للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:٢٢ - ٢٣] وغيرها فإن هذا خاص بالمؤمنين، ويأتي إن شاء الله بيان أن النظر هو الرؤية البصرية قطعا، وبيان أن إلى حرف جر لا بمعنى النعمة على مدعاكم، وأن المنفي في الآية تمدحا غير الرؤية التي يثبتها أهل السنة وهو الإدراك على وجه الإحاطة. وعلى ذلك يمكن التخصيص. أما الجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم: "إن الله تمدح بأن لا يرى. . الخ". نقول هذا الكلام مجرد دعوى فأين الدليل عليها؟ وثبوت المدح في سياق الكلام ليس لكم فيه دليل على امتناع الرؤية، بل لنا فيه الحجة على صحة الرؤية، لأنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته، ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته، قال ابن القيم: (فالنفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء، لأن المدح لا يكون إلا بالأوصاف الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال، ولا يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم إلا إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفي السنة والنوم، المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه فلو كان المراد بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ أنه لا يرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال لمشاركة المعدوم له في ذلك فإن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار والرب جل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض فإذا المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به كما كان المعنى في قوله: وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ [يونس:٦١] أنه يعلم كل شيء، وفي قوله: وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [ق: ٣٨] أنه كامل القدرة، وفي قوله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: ٤٩] وفي قوله: لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] أنه كامل القيومية، فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:١٠٣] يدل على غاية عظمته وأنه أكبر من كل شيء وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية كما مر (١).

ثانيا: من أدلة المعتزلة على نفي الرؤية قوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: ١٤٣] فقد استدلوا بالآية على عدم الرؤية من وجوه:

الوجه الأول:


(١) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (٢٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>