للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن قيل: كيف دلت لَن على التأبيد في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: ٧٣]. قلنا: لم تدل لَن على التأبيد هنا إلا بسبب قرينة "خارجية" هي العلم القاطع المستمد من المشاهدة الصادقة الدائمة وليس من ذات دلالة لَن والله أعلم (١).قال الغزالي: (وأما قوله سبحانه لَن تَرَانِي فهو دفع لما التمسه وإنما التمس في الدنيا فلو قال أرني أنظر إليك في الآخرة فقال: لَن تَرَانِي لكان ذلك دليلا على نفي الرؤية ولكن في حق موسى صلوات الله سبحانه وسلامه عليه على الخصوص لا على العموم، وما كان أيضا دليلا على الاستحالة فكيف وهو جواب على السؤال في الحال (٢).فالحاصل: أن لَن هنا لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه، والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله لَن تَرَانِي نفيا لذلك المطلوب، فأما أن تفيد النفي الدائم فلا، وأما عن استشهاد الزمخشري على أن لَن تشعر باستحالة المنفي بها عقلا فمردود بكثير من الآيات كقوله تعالى فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا [التوبة: ٨٣] وقوله تعالى: لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [هود: ٣٦]، وقوله تعالى: لَّن تَتَّبِعُونَا [الفتح: ١٥]. فإن الأخبار الواردة في هذه الآيات كلها جائزات عقلا لولا أن الخبر منع من وقوعها، فالرؤية كذلك، فدعوى الاستحالة العقلية على هذا باطلة لهذه الآيات وغيرها (٣).

أما دعوى عبد الجبار بن أحمد المجاز في قوله تعالى: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: ٩٥] فمردودة بأن المجاز خلاف الأصل، فإن الأصل الحقيقة، وهذه دعوى لا تقف عند حد، وسهلة يسيرة على كل من كان الدليل ضده، ومخالفا لرأيه، فيرده بدعوى المجاز وأن الحقيقة ما يدعيها، وتنزلا نقول: أين القرينة الدالة على أن المراد خلاف الحقيقة؟ ولا قرينة ههنا فالآية على حقيقتها. ولَن لا تقتضي النفي الأبدي وإن اقتضت فليس يدل على منع الجواز بل على منع وقوع الجائز.


(١) ((النحو الوافي)) لعباس حسن (٤/ ٢٨١)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (١٣٣)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (١/ ٩٥).
(٢) ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (٣٨).
(٣) ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (٢/ ١١٤) من هامش الكشاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>