للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:١٤٣] ووجه الدلالة كما قال عبد الجبار: (هو أنه علق الرؤية باستقرار الجبل فلا يخلو: إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه وتدكدكه، أو علقها به حال تحركه لا يجوز أن تكون الرؤية علقها باستقرار الجبل، لأن الجبل قد استقر ولم ير موسى ربه، فيجب أن يكون قد علق ذلك باستقرار الجبل بحال تحركه دالا بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه، ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى: وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: ٤٠] (١). والجواب: أنه علقها باستقرار الجبل من حيث هو من غير قيد بحال الحركة أو السكون، وإلا لزم الاحتمال في الكلام، واستقرار الجبل من حيث هو ممكن قطعا، فلو فرض وقوعه لما لزم منه محال لذاته، واستقراره عند حركته ليس بمحال، إذ قد يحصل الاستقرار بدل الحركة ولا محذور فيه، إذ المحال الاستقرار مع الحركة في آن واحد، لا وقوع شيء منهما في وقوله تعالى: آخر بدل صاحبه (٢).

الثالث من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [الأعراف:١٤٣] ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر موسى عند سؤالها؟ قال الزمخشري: وَخَرَّ موسَى صَعِقًا من هول ما رأى. . ومعناه خر مغشيا عليه غشية كالموت، وروي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة (٣).

بناء على هذا حكموا بامتناع الرؤية على الله تعالى.

والحق أنه ليس فيها دلالة على المنع بل إن دلالتها على الجواز أقرب، فإن الصعق لم يحدث لموسى عليه السلام إلا عندما رأى الجبل يتدكدك لما تجلى له الرب تبارك وتعالى ظهورا، أو على القول أن موسى رأى الله - على ضعفه – فصعق، وهذا يدل على الجواز وإنما كان الصعق نتيجة عدم تحمل موسى رؤية الله تعالى في هذه الدار الفانية. أما ما أورد الزمخشري من مرور الملائكة على موسى وهو صعق. . الخ. فقد علق عليها الإسكندري قائلا: (فهذه حكاية إنما يوردها من يتعسف لامتناع الرؤية فيتخذها عونا وظهرا على المعتقد الفاسد. والوجه التورك بالغلط على ناقلها، وتنزيه الملائكة عليهم السلام من إهانة موسى صفي الله وكليمه بالوكز بالرجل والغمص في الخطاب (٤).

وهل مثل هذه الرواية يحتج بها على عدم الرؤية؟ أو يستشهد بها وأنتم تردون الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والمنقولة نقلا صحيحا بحجة أنها آحاد، فما أكثر تناقض من يسلك غير سبيل المؤمنين ويتخذ إلهه هواه.


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٦٥).
(٢) ((المواقف)) للجرجاني (٨/ ١٢١).
(٣) ((الكشاف)) للزمخشري (٢/ ١١٥).
(٤) ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (٢/ ١١٥) من هامش الكشاف.

<<  <  ج: ص:  >  >>