للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرابع من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة: قوله تعالى: حكاية عن موسى عليه السلام: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ [الأعراف:١٤٣] أي أنزهك مما لا يجوز عليك. قال الرازي عند حكايته للأوجه التي استدل بها المعتزلة على نفي الرؤية من الآية: قوله سُبْحَانَكَ الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى. فكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن الرؤية، فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه لله تعالى، وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة) (١).

هكذا قالوا في تأويلها، وصحيح أن المراد هو تنزيه الله تعالى وتعظيمه وإجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه الفناء حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في دار الآخرة، والرؤية ليست من النقائص على ما يدعيه نفاتها فهي ليست نقصا في المخلوق بل هي كمال وكل كمال اتصف به المخلوق، وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به، وقد أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، وطلبها موسى عليه السلام، فكيف يصح أن ندعي أنها من النقائص ومن أين لنا القول في هذا؟ إلا إذا كان فروخ اليونان أعرف بما يجوز على الله ويمتنع من نفسه، وأعرف من رسله عليهم الصلاة والسلام تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

الخامس من أوجه دلالة الآية على استحالة الرؤية عند المعتزلة:

قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام لما أفاق أنه قال: تُبْتُ إِلَيْكَ ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه، ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال: وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قال الزمخشري: تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لست بمرئي ولا تدرك بشيء من الحواس.

قال: فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية لقومه على ما قلت فمم تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة – وإن كان لغرض صحيح - على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى (٢).

قال الباقلاني: (ويقال لهم في قوله تعالى: تُبْتُ إِلَيْكَ أنه لم يقل جل اسمه أنه تاب من مسألته إياه الرؤية فيمكن أن يكون ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة ويجددونها عند مشاهدة الهول والآيات، ويحتمل أن يكون المعنى في قوله: تُبْتُ إِلَيْكَ من ترك استئذاني لك في هذه المسألة العظيمة، ومثلها ما لا يكون معه تكليف لمعرفتك والعلم بك. ويحتمل أن يكون أراد بقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ أن أسألك الرؤية لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة عليك، ولا لأني عاص في سؤالي، كما يقول القائل: تبت من كلام فلان ومعاملته وركوب البحر ومن الحج ماشيا، إذا ناله في ذلك تعب ونصب وشدة وإن كان ذلك مباحا حسنا جائزا، والتوبة هي الرجوع عن الشيء، ومن ذلك سمي الإقلاع عن الذنوب والعود إلى طاعة الله تعالى توبة منها قوله تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: ١١٨] أي رجع بهم إلى الفضل والامتثال ليرجعوا عما كانوا عليه، فقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت عن سؤالي إياك الرؤية، وهذا هو أصل التوبة وليس الرجوع عن الشيء يقتضي كونه عصيانا فبطل تعلقهم بالآية (٣).


(١) ((التفسير الكبير)) للإمام الرازي (١٤/ ٢٣٣).
(٢) ((الكشاف)) للزمخشري (٢/ ١١٥).
(٣) ((التمهيد)) للباقلاني (ص ٢٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>