للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنهم لما طلبوا من موسى أن يريهم الله جهرة زجرهم الله تعالى وردعهم عن سؤالهم بأخذ الصاعقة من غير ما طلب من موسى إلى زجرهم بطلب الرؤية وإضافتها إلى نفسه. فإن قيل: إن أخذ الصاعقة لهم لا يدل على أن الرؤية ممنوعة فالصاعقة أخذتهم عقيب السؤال، ولا يدل على امتناع ما طلبوه لجواز أن يكون الأخذ بالصاعقة لأنهم قصدوا إعجاز موسى عليه السلام من الإتيان بما طلبوه مع كونه ممكنا، فأنكر الله ذلك عليهم وعاقبهم كما أنكر تعالى قول أهل مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء: ٩٠]. وقول أهل الكتاب له صلى الله عليه وسلم: أنزل علينا كتابا من السماء قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء [النساء: ١٥٣]. وما ذلك إلا بسبب التعنت، وإن كان المسؤول أمرا ممكنا في نفسه، فأظهر الله لهم ما يدل على صدقه معجزا ورادعا لهم عن التعنت (١).أما استدلالهم بقوله تعالى: أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء [الأعراف: ١٥٥] على أنه سؤال عن قومه، وتعقيب الزمخشري على ذلك فلا نسلمه لهم. قال صاحب الانتصاف: (فإن الذي كان الإهلاك بسببه إنما هو عبادة العجل في قول أكثر المفسرين، ثم وإن كان السبب طلبهم للرؤية فليس لأنها غير جائزة على الله ولكن الله تعالى أخبر أنها لا تقع في دار الدنيا، والخبر صدق. وذلك بعد سؤال موسى للرؤية فلما سألوه وقد سمعوا الخبر بعدم وقوعها كان طلبهم خلاف المعلوم تكذيبا للخبر، فمن ثم سفههم موسى عليه السلام وتبرأ من طلب ما أخبر الله أنه لا يقع، ثم ولو كان سؤالهم الرؤية قبل إخبار الله تعالى بعدم وقوعها فإنما سفههم موسى عليه السلام لاقتراحهم على الله هذه الآية الخاصة وتوقيفهم الإيمان عليها حيث قالوا: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة: ٥٥]. ألا ترى أن قول أهل مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا [الإسراء:٩٠]. إنما سألوا منه جائزا، ومع ذلك قرعوا لاقتراحهم على الله ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه) (٢).

الاعتراض الرابع من المعتزلة على الأول من دليل الجواز: أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفا بربه وبعدله وتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفا على السمع. وهذا قول بعض المعتزلة كالحسن وغيره (٣).

قال الرازي في الجواب عن هذا: (قال أصحابنا أما هذا الوجه فضعيف ويدل عليه وجوه:

الأول: إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة، فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى، وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة، وذلك باطل بإجماع المسلمين.


(١) ((شرح المواقف)) (٨/ ١١٩).
(٢) ((الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال)) لأحمد الإسكندري المالكي (٢/ ١١٢) من هامش ((الكشاف)) بتصرف.
(٣) ((تفسير الرازي)) (١٤/ ٢٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>