للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني: أن المعتزلة بدعوة العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا، أو في حكم المقابل، فإما أن يقال: إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم، فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئيا يوجب تجويز كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة، وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزم كون موسى عليه السلام كافرا وذلك لا يقوله عاقل. وإن كان الثاني فنقول لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل علما بديهيا ضروريا، ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلا لموسى عليه السلام لزم أن يقال: إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية، ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنونا وذلك كفر بإجماع الأمة، فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالما بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلا، والله أعلم) (١).

ويتصور اعتراض المعتزلة على الوجه الأول من وجهي الرد بأن هذه العقيدة سمعية، ففي الوقت الذي سأل موسى ربه الرؤية لم يكن جاءه وحي بامتناعها بخلاف المعتزلة فإنهم علموا ذلك من الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم أنها ممتنعة، وهذا لا يوجب أفضلية المعتزلة على موسى عليه السلام لأن المسألة راجعة إلى السمع والوحي، هذا ما يمكن أن يعترض به المعتزلة على هذا الجواب.

فيقال إن عقيدة الرؤية ليست سمعية بل هي عقيدة عقلية باعترافكم أنفسكم، فإنكم حين أردتم الاستدلال على دعواكم امتناع الرؤية قسمتم الأدلة إلى عقلية ونقلية فإذا هذه عقيدة يمكن الاستدلال عليها بالعقل، فما يقوله أهل السنة في الرد على اعتراضكم قول صحيح حاسم لأنه يلزم أن تكونوا أقوى عقلا من موسى حيث علمتم بعقولكم امتناع الرؤية مع أن موسى عليه السلام كان جاهلا بامتناعها وهذا من أبعد المحال.

الاعتراض الخامس من المعتزلة على الوجه الأول من دليل الجواز:

قال أبو الهذيل العلاف: إنه مع علم موسى باستحالتها عقلا طلبها ليؤكد لديه دليل العقل بدليل السمع حتى يقوى علمه بهذه الاستحالة لأن تعدد الأدلة وإن كان من جنس واحد يفيد زيادة العلم بالمدلول، فكيف إذا كانت من جنسين، وقد فعل مثل هذا قبله إبراهيم عليه السلام حين طلب الطمأنينة فيما يعتقده ويعلمه بانضمام المشاهدة إلى الدليل حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠].

والجواب:

استبعاد هذا لأن العلم لا يقبل التفاوت، فهو صفة توجب تمييزا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه، ولأنه لو كان المقصود إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه؛ لوجب أن يطلب ذلك صريحا من الله بما يقوي امتناع رؤيته تعالى بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل، وحيث لم يطلب ذلك بل طلب الرؤية علم فساد مدعاهم. أما مقارنة ذلك بطلب إبراهيم عليه السلام فالفارق ظاهر بين طلب إبراهيم وموسى على قولهم، لأن إبراهيم طلب أن يرى الكيفية مشاهدة ظاهرة جلية مع تصديقه، أما طلب موسى على مدعاهم فهو يطلب دليلا سمعيا يقوي به العقل مع علمه بالاستحالة فما طلبه موسى هو عين ما يعلم، والعلم لا يقبل التفاوت كما مر (٢).


(١) ((تفسير الرازي)) (١٤/ ٢٢٩).
(٢) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (٨/ ١٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>