للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثاني من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن الله لم ينهه ولا أيأسه لما طلب الرؤية، ولو كانت محالة لأنكر عليه، فقد أنكر جل وعلا على نوح لما سأله نجاة ابنه حيث قال: إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: ٤٧]. وحينما قال الخليل عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠]. لم ينكر عليه سؤاله، ولما قال عيسى عليه السلام اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:١١٤] لم ينكر عليه سؤاله. ففي إنكاره جل وعلا على نوح عليه السلام دليل عدم جواز ما طلب وعدم الإنكار على الخليل وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم دليل الجواز وعدم الاستحالة (١).

الوجه الثالث من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن الله تعالى أجابه بقوله لَن تَرَانِي وهذا دليل على الجواز، فلو كانت الرؤية مستحيلة عليه لقال: لا تراني، أو لست بمرئي، أو لا تجوز رؤيتي، ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر مثلا فقال له آخر أعطني هذا لآكله، فإنه يقول له هذا لا يؤكل، ولا يقول له لا تأكله، ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله، ففي قوله في الجواب لَن تَرَانِي دليل على أنه سبحانه وتعالى يرى ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤية العلي العظيم (٢).قال أبو سعيد الدارمي في قوله تعالى: لَن تَرَانِي أي (في الدنيا؛ لأن بصر موسى من الأبصار التي كتب الله عليها الفناء في الدنيا فلا تحتمل النظر إلى نور البقاء، فإذا كانت يوم القيامة ركبت الأبصار والأسماع للبقاء فاحتملت النظر إلى الله عز وجل بما يطوقها الله، ألا ترى أنه يقول: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ولو قد شاء لاستقر الجبل ورآه موسى، ولكن سبقت منه الكلمة أن لا يراه أحد في الدنيا، فلذلك قال لَن تَرَانِي فأما في الآخرة فإن الله تعالى ينشئ خلقه فيركب أسماعهم وأبصارهم للبقاء فيراه أولياؤه جهرا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (٣).

الوجه الرابع من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز: أنه تعالى علق الرؤية على أمر جائز، وهو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة، قال الرازي: (إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها، لأنه لما كان ذلك الشرط أمرا جائز الوجود، لم يلزم من فرض وقوعه محال، فبتقدير حصول ذلك الشرط، إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب، فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول، وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله، أنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل (٤).

وللمعتزلة على هذا الوجه اعتراضان:

الاعتراض الأول:


(١) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (٢٢٣).
(٢) ((تفسير الرازي)) (١٤/ ٢٣١)، ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (٢٢٣).
(٣) ((الرد على الجهمية)) (٥٥).
(٤) ((تفسير الرازي)) (١٤/ ٢٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>