للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنه علق الرؤية على استقرار الجبل ولا يخلو إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه وتدكدكه أو علقها به حال تحركه، ولا يجوز أن يكون بالاستقرار بعد التحرك لأنه لم يره فصح أن التعليق كان حال الحركة، وذلك دليل على استحالة الرؤية كاستحالة استقرار الجبل حال حركته، والمعلوم أنه لا يستقر وهذه طريقة العرب إذا أرادوا تأكيد اليأس من الشيء علقوه بأمر يبعد حصوله، فلما جعله تعالى دكا وظهر بعد استقراره لذلك في النفوس حل محل الأمور التي يبعد بها الشيء إذا علق بها في الكلام، لأن استقراره وقد جعله دكا يستحيل لما فيه من اجتماع الضدين فما علق به يجب أن يكون بمنزلته.

الاعتراض الثاني: أنه لم يقصد من التعليق المذكور في الآية بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل بيان عدم وقوعها لعدم المعلق به وهو الاستقرار بغض النظر عن كونه ممكنا أو ممتنعا (١).

هذا تصوير ما اعترضوا به على هذا الدليل. والأول هو أحد أوجه استدلالهم بالآية على منع الرؤية وقدمنا الجواب على الدليل هناك، ونعيد الجواب من وجه آخر يناسب الاعتراض قال الرازي: (إن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، وكونه ممتنع الخلو عن الحركة أو السكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث إنه متحرك أو ساكن، ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا كان واجب الوجود، ولو أخذته بشرط كونه معدوما كان واجب العدم، فلو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو كونه معدوما كان ممكن الوجود فكذا ههنا الذي جعل شرطا في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطا أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه (٢).

وقد سبق في دفع الاعتراض وجهة واضحة وهو أنه إذا علق الله تعالى رؤية موسى على استقرار الجبل فليس المراد بالاستقرار أن يحصل مع الاندكاك كما زعم المعتزلة، بل المراد أن يحصل الاستقرار بدل الاندكاك. ولا شك أن هذا أمر ممكن، وهذا هو المعروف في أساليب الكلام فإنك لو قلت لشخص وهو جالس إن قمت أعطيتك جائزة مثلا، لم يكن المراد أن يقوم وهو جالس بل المراد أن يقوم بدل جلوسه وهذا ظاهر.

والجواب عن الاعتراض الثاني على الوجه الرابع، وهو:

قولهم إن المقصود من التعليق بيان عدم المعلق لعدم المعلق به. أجاب صاحب المواقف عن هذا الاعتراض فقال: (إنه قد لا يقصد الشيء في الكلام قصدا بالذات ويلزم منه لزوما قطعيا، والحال ههنا كذلك، فإنه إذا فرض وقوع الشرط الذي هو ممكن في نفسه فإما أن يقع المشروط فيكون ممكنا، وإلا فلا معنى للتعليق وإيراد الشرط والمشروط، لأنه حينئذ منتف على تقديري وجود الشرط وعدمه، لا يقال فائدة التعليق ربط العدم بالعدم مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود لأنا نقول إن المتبادر في اللغة من مثل قولنا إن ضربتني ضربتك هو الربط في جانبي الوجود والعدم معا لا في جانب العدم فقط كما هو المعتبر في الشرط المصطلح) (٣).


(١) ((شرح الأصول الخمسة)) (٢٦٥)، ((الكشاف)) للزمخشري (٢/ ١١٤)، ((متشابه القرآن)) (٢٩٦).
(٢) ((تفسير الرازي)) (١٤/ ٢٣٢).
(٣) ((شرح الجرجاني للمواقف)) (٨/ ١٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>