للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنه يقال لهم: القول بأن التجلي إظهار القدرة هذا تأويل بخلاف تأويل جمهور المفسرين ثم إن معنى التجلي في اللغة الظهور الحقيقي والعدول عنه عدول عن الحق، ثم القول (إنه تعالى علق جعله الجبل دكا بالتجلي ولو أراد به تجلي ذاته لم يكن لذلك معنى) هذا بعيد عن الصواب إذ لا يعدم المعنى إلا فيما إذا أريد بالتجلي غير ذاته فموسى طلب رؤية الذات لا القدرة وقد سبق هذا رؤية الكثير من قدرته تعالى لموسى كالمعجزات التي أيده الله بها وكل ذلك رؤية لآثار القدرة، فالحمل على أن التجلي تجلي القدرة لهذا بعيد جدا وقد سبقت الإشارة إليه. ثم القول (بأنه لو كان المراد بالتجلي المقابلة لوجب أن لا يستقر له مكان، وهذا في العرش يكون أولى). قول في غاية الضعف، فالعرش قد خلقه الله تعالى لهذا الشأن وجعل فيه الصمود والتحمل لما خلقه له، والكرسي والحجاب كذلك وما خلقه لغير ذلك لا يحتمل ظهور ذاته في الدنيا فـ "حجابه النور ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (١) أي لاحترقت السموات والأرض ومن فيهن، وقالوا: (لو كان في الحقيقة تجلى للجبل بمعنى أنه ظهر وزال الحجب لكان من على الجبل يراه أيضا فكان لا يصح مع ذلك قوله لَن تَرَانِي وكان لا يصح أن يعلق نفي الرؤية بأن لا يستقر الجبل والمعلوم أنه لا يستقر بأن ينكشف ويرى لأن ذلك في حكم أن يجعل الشرط في أن لا يرى ما يوجب أن يرى وذلك متناقض) (٢).ونجيب على هذا بجوابهم على من اعترض عليهم بقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ [الأنفال: ٤٤] وجهه أنه إذا جاز أن يقلل الكثير في العين الصحيحة جاز مع صحتها وارتفاع الموانع أن نراه عز وجل. حيث أجابوا بأن الظاهر يقتضي أنه قلل العدد في أعين المؤمنين وليس فيه أنه فعل ذلك من غير مانع، ومن قولنا: إن ذلك يجوز للموانع وإنما أنكرنا القول بأن المرئي لا نراه بالعين الصحيحة مع ارتفاع جميع الموانع (٣). فيحق لنا القول بحصول التجلي للذات ووجود مانع من الرؤية لما سوى الجبل أوجده الله تعالى حيث قضى بأنه لا يرى في الدنيا، وأن الخلق لا تتحمل النظر إليه ولا تناقض على ما يدعون حيث إن الشرط في الرؤية وعدمها استقرار الجبل وعدمه لا الانكشاف، وهذا ظاهر.

فإن قيل: إن الجبل جماد فكيف يتصور أن يرى الله تعالى؟! قلنا: لا يمتنع أن يخلق الله تعالى في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم وسائر ما يتصف به الحي، ثم يخلق فيه رؤية متعلقة بذاته تعالى حين تجلى له ويؤيد هذا أنه تعالى قال يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: ١٠]، وكونه مخاطبا بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل، ونحتج لهذا بتسبيح الحصى بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وسلام الحجر عليه (٤)، وغير ذلك وهو ليس بغريب، والله أعلم.

الوجه السادس من أوجه الاستدلال بالآية على الجواز هو: أن من جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير وساطة فرؤيته أولى بالجواز، وكليم الله وأعرف الناس به في زمانه لما سمع كلامه ومناجاته له من غير وساطة اشتاقت نفسه إلى رؤيته لعلمه عدم التفريق بين الرؤية والكلام، لهذا فلا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم (٥).


(١) ((صحيح الإمام مسلم)) (١/ ١٦١).
(٢) ((متشابه القرآن)) (١/ ٢٥٨).
(٣) ((متشابه القرآن)) (١/ ٣٢٣).
(٤) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (٧).
(٥) ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (٢٢٤)، ((شرح الطحاوية)) (١٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>