للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من كلام المازني؛ يظهر أن الحديث كالآية يدل على أن الوعيد المتوجه إلى العصاة ليس بحتمي؛ بل قد يخلقه الله؛ بأن يغفر لهم. ثم إن خلف الوعيد لا يعتبر كذباً ولا قبيحاً، بدليل المناظرة التي جرت بين أبي عمرو بن العلاء، وعمرو بن عبيد؛ حيث قال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو: لا يخلف الله وعيده، وقد قال سبحانه وتعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا ... الآية [النساء: ٩٣]. فقال له أبو عمرو: ويحك يا أبا عثمان من العجمة أتيت!؛ إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذماً، بل جوداً وكرماً. فقال عمرو بن عبيد: فأوجدني هذا. فقال: نعم. أما سمعت قول الشاعر:

وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي (١)

لما يلي:-

أولاً: أن الوعيد مشروط بشرائط مثل عدم العفو، فلا يلزم منه الكذب، فمحصل آيات الوعيد أنا نعذبهم إن لم نعف عنهم، ولكن عفونا عنهم، فما نعذبهم، وليس في هذا خلف وعيد حتى يلزم منه الكذب. ثانيا: أن معنى آيات الوعيد: إنشاء الوعيد؛ لا إخبار به، فهي لا تتصف بالصدق والكذب، لأنهما من صفات الخبر دون الإنشاء، فلا يلزم الكذب في إخلاف الوعيد (٢).

وأما الاستدلال القاضي ومن معه بقوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: ٢٩]. على أن الله لا يخلف وعيده. فالجواب: إن الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعيده في الكافر؛ بدليل الآيات التي قبلها. وبدليل النصوص الدالة على أن الله قد يغفر لمن يشاء من العصاة. قال تعالى: ... وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ... الآية [النساء: ٤٨]. وذلك جمعاً بين الآيات. وأما قولهم: " ... أنه لو جاز الخلف في الوعيد؛ لجاز في الوعد ... " (٣). فقول فاسد؛ لأن الخلف في الوعد بخل ولؤم، والله أكرم الأكرمين، والخلف في الوعيد كرم وجود، وهو من صفاته جل وعلا (٤).

وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

الشبهة السابعة: يقول القاضي عبدالجبار: " ... العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين؛ إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه. فإن لم يعف عنه؛ فقد بقي في النار خالداً، وهو الذي نقوله. وإن عفي عنه، فلا يخلو؛ إما أن يدخل الجنة أو لا. فإن لم يدخل الجنة لم يصح، لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو: إما أن يدخلها مثاباً أو متفضلاً عليه، لا يجوز أن يدخل الجنة متفضلاً عليه، لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلابد من أن يكون حاله متميزاً عن حال الولدان المخلدين، وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثاباً، لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح ... لذا يجب أن يكون معاقباً على ما نقوله" (٥).


(١) ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٩٦)، وانظر ((القول السديد)) (ص١٦).
(٢) ((القول السديد)) (ص١٥)، بتصرف.
(٣) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص١٣٦).
(٤) انظر ((القول السديد)) (ص١٥،٢٣). و ((المواقف)) (٨/ ٣٧٨)، و ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٩١).
(٥) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦٦٦ - ٦٦٧)، وانظر (ص ٦٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>