للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد سبق لنا أن بينا أن غلو المعتزلة في فهمهم لعقيدة التوحيد تفرع عنه: أ- إيمانهم بنفي الصفات. ب- نفي الرؤية. ج- القول بخلق القرآن. نفي الصفات فقالوا: بخلق القرآن اعتقادا منهم أن ثبوت قدم أي صفة بما فيها كلامه تعالى: يثبت مع الله قديما غيره، وهذا عين الشرك في نظرهم، ونفوا الرؤية لأنها تقتضي الجسمية وهي ما يتنزه الله عنه. والمعتزلة أجمعوا على أن الله سبحانه ليس بجسم ولا عرض وأن شيئا من الحواس لا يدركه في الدنيا ولا في الآخرة. حتى أن بعضهم يكفر من يقول برؤيته (كما ترى المرئيات بالمقابلة أو المحاذاة أو في مكان حالا فيه دون مكان) (١).

لكنهم اختلفوا هل يرى الله بالقول؟ فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: نرى الله بقلوبنا، بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر هشام الفوطي عباد بن سليمان ذلك (٢).أما الخابطية (أصحاب أحمد بن خابط ت ٢٣٢هـ) والحدثية (أصحاب الفضل الحدثي (ت ٢٥٧هـ) فإنهم آمنوا بالرؤية ولكنهم صرفوها إلى رؤية العقل الأول العقل الفعال) (٣). وفكرة العقل هذه فكرة يونانية آمن بها بعض الفلاسفة المسلمين وتسربت إلى الفكر الاعتزالي. والمعتزلة حين ينفون الرؤية يزعمون أن كل شيء يرى بالعين يجب أن يكون في مقابلة العين، أو ينبغي أن يكون جسما يحتل حيزا، بهذا ناظر أبو إسحاق النصيبيني رئيس معتزلة البصرة أبا بكر محمد بن الطيب الباقلاني (ت ٤٠٣هـ) (٤)، بل فإن تعله (٥) الجسمية يركن إليها كل النفاة لرؤية الله. يقول القرطبي: (اشترط النفاة في الرؤية شروطا عقلية كالبنية المخصوصة، والمقابلة وإيصال الأشعة وزوال الموانع كالبعد والحجب في خبط لهم وتحكم) (٦).والمعتزلة مناصرة منهم لرأيهم يردون كل الأحاديث النبوية التي تثبت الرؤية بدعوى أنها أحاديث آحاد (وإنما يقبل خبر الواحد فيما طريقه العمل (٧) ويحاولون في الوقت نفسه اختلاق أحاديث كثيرة تتساوق مع مذهبهم. فهذا القاضي عبد الجبار يورد أثرا بصيغة التمريض ينسبه لابن عباس فيقول وروي أن نجدة الحروري سأل ابن عباس فقال: كيف معرفتك بربك؟ فقال: (أعرفه بما عرفني به نفسه من غير رؤية، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالقياس معروف بغير تشبيه (٨).كما ينسب خبرا لعائشة يقول (إنها سمعت بأن القوم يقولون: بأن الله يرى، فقالت: لقد قف شعري مما قلتموه ودفعت ذلك بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:١٠٣]) (٩).

أما الآيات القرآنية التي تثبت رؤية الله فإنهم يقفون منها موقف التأويل والتخريج المتعسف: فهذا الزمخشري يفسر قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:٢٢ - ٢٣] بأن المراد بناظرة الثانية (بالظاء) منتظرة فالمؤمنون وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ينتظرون ذلك اليوم. ويبين أن تقديم المفعول به (إلى ربها) يفيد الاختصاص بمعنى أن هذه الوجوه (تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره. . . ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم. . . فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص) (١٠).


(١) ((فضل الاعتزال)) (٦٣) - ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ٢٣٨، ٣٢٩)) - ((ملل الشهرستاني)) (١/ ٨١).
(٢) ((مقالات الإسلاميين)) (١/ ٢٣٨)).
(٣) ((ملل الشهرستاني)) (١/ ٦٣).
(٤) ((إعجاز القرآن المقدمة للمحقق)) (٢٣).
(٥) كذا بالمطبوع.
(٦) ((فتح الباري)) (١٧/ ١٩٥).
(٧) ((فضل الاعتزال)) (١٥٨).
(٨) ((فضل الاعتزال)) (١٥٠).
(٩) ((فضل الاعتزال)) (١٥٨).
(١٠) ((الكشاف)) (٤/ ١٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>