للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونفي الاصطفاء عن النبوة رأي قديم أبداه بعض الفلاسفة حيث جعلوا النبوة مرتبة من المعرفة والسمو الروحي يبلغها المجتهدون الذين يتدرجون في معاناة ورياضة نفسية خاصة. وبذلك افتقدت النبوة جلالها وقدسيتها، وصارت لدى هؤلاء الفلاسفة ومن تأثر بهم من المعتزلة من الموضوعات التي يتناولونها بعيدا عما تستحقه من الاحترام. فهذا واصل بن عطاء يخطب فيجيد فيقول عمرو بن عبيد وكان شاهدا الجمع: "ترون لو أن ملكا من الملائكة أو نبيا من الأنبياء يزيد على هذا" (١)؟ بل بلغ بهم استهتارهم بمقام النبي صلى الله عليه وسلم أن جوز عليه بعضهم تعمد ارتكاب المعاصي إلا أنها لا تكون إلا صغائر (٢).وبناء على هذا فإن الكثير من المعتزلة يعتبرون الحجة قائمة على الناس بالعقل لا بالنبوة فحتى من لم يبلغه خبر الرسول فهو محجوج (٣) لتقصيره في إعمال عقله للوصول إلى الحقيقة. ومن المعتزلة من نفى أن تكون المعجزات دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعواه الرسالة ففلق البحر وقلب العصا حية ومحق السحر وانشقاق القمر والمشي على الماء وغيرها لا تدل في زعمهم على صدق الرسالة (٤). والقرآن نفسه كما ذهب إلى ذلك هشام الفوطي وعباد بن سليمان (لم يجعل علما على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عرض من الأعراض لا يدل شيء منها على الله ولا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم (٥).فهل نعجب بعد هذا إذا أنكر النظام ما روي من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من انشقاق القمر وتسبيح الحصا في يده ونبوع الماء بين أصابعه (٦)؟ فهو حين يتحدث عن رواية ابن مسعود لحديث الانشقاق يتناولها دون التزام لأي لون من ألوان الأدب إزاء الصحابة الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي)) (٧) فيقول: (وهذا من الكذب الذي لا خفاء به لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه وإنما يشقه ليكون آية للعالمين): فكيف لم يعرف بذلك العامة، ولم يؤرخ الناس بذلك العام، ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنه كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد (٨)؟ وفي الحقيقة فإنه بإنكاره للكثير من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم إنما يرمي إلى إنكار ثبوته (٩) سيما والنظام معجب بقول البراهمة بإبطال النبوات (ولم يجسر على إظهار هذا القول خوفا من السيف) (١٠).

وقد تسرب هذا التشكيك في المعجزات إلى المسيحيين البيزنطيين، يتسنمونها لرد رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا الإمبراطور باسيليوس الثاني يسال أبا بكر الباقلاني في سفرته إلى بيزنطة: هذا الذي تدعونه من معجزات نبيكم: من انشقاق القمر كيف هو عندكم؟.


(١) ((ميزان الاعتدال)) (٣/ ٢٧٧).
(٢) ((ميزان الاعتدال)) (١/ ٢٧٩).
(٣) ((ميزان الاعتدال)) (١/ ٢٩٦).
(٤) ((الفرق بين الفرق)) (١٦٢).
(٥) ((إعجاز القرآن)) للباقلاني – مقدمة- سيد صقر (٨).
(٦) ((الفرق بين الفرق)) (١٣٢) - ((السنة ومكانتها)) (٢٠٦).
(٧) رواه البخاري (٣٦٧٣) , من حديث أبي سعيد الخدري, ومسلم (٢٥٤٠) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنها.
(٨) ((تأويل مختلف الحديث)) (٢١) ((الفرق بين الفرق)) (٣١٩).
(٩) ((الفرق بين الفرق)) (١٣٢).
(١٠) ((الفرق بين الفرق)) (١٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>