للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومثل هذه العبارات التي تنضح مروقا كثيرا ما تطالعنا ونحن نتصفح تاريخ المعتزلة ورجالهم: فهذا عمرو بن عبيد الذي طار بلب أبي جعفر المنصور وكان يعده من أزهد الناس في زينة الحياة الدنيا حتى حزن لوفاته. ورثاه يقول: (لو كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ لم يكن لله على العباد حجة) تساوقا مع إيمانه بنفي القدر أي نفي العلم الأزلي لله بما هو كائن. ... وكثيرا ما يوصف أعلامهم بالفسق والفجور، فهذا أبو الفتح الأزدي يصف واصلا بن عطاء بأنه (رجل سوء كافر) (١) ووصف البغدادي بعض الفرق بأكملها بالغلو في الكفر كالخابطية والجمارية (٢).

٢ - كثرة اختلافاتهم:

ولعل مما عجل بانقراضهم كثرة اختلافاتهم، وهذا يرجع إلى تنوع مصادرهم وتضاربها وإلى تعويلهم على العقل الذي قدموه على القرآن والسنة وجعلوا منه رائدهم وإمامهم، وقد ثبت في محك الواقع أن العقول والأفهام كثيرا ما تختلف بل فإن العقل الواحد كثيرا ما يحبذ اليوم أمرا يكفر به غدا ويلعنه، والخطير في اختلافاتهم أنها شملت قضايا العقيدة نفسها.

يقول ابن قتيبة في معرض تصوير ما اعترى القوم من الانقسامات رغم صدورهم عن الرأي والنظر (وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس وأعداد آلات النظر أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون لأن التهم لا تدل إلا على عدد وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق. . فما بالهم أكثر أهل الناس اختلافا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين. (فأبو الهذيل العلاف يخالف النظام والنجار يخالفهما وهشام ابن الحكم يخالفهم وكذلك ثمامة ومويس وهاشم الأوقص و. . ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يُدان برأيه وله عليه تبع) (٣).

وقلما تمر بهم مسألة ولا تختلف حولها أنظارهم، حتى أن عبارة (اختلفت المعتزلة) تكاد تتصدر كل المسائل التي تناولها المعتزلة بالبحث. وقد يبلغ الاختلاف والتنافر بينهم إلى درجة يكفر فيها بعضهم بعضا وأكثر زعمائهم يكفرون أتباعهم المقلدين لهم (٤).وليس حتما أن يكون هذا التناقض والاختلاف بين الفرق والأفراد وإنما قد يصيب التناقض الفرد الواحد منهم فيرى الرأي ثم يتراجع ويتوب عنه لما يبدو له من سقمه وعقمه، فهذا أبو سهيل بشر بن المعتمر مثلا آمن بآراء فيها مروق عن الدين وخروج عن صحابته (ثم تاب ورجع إلى أصحابه) (٥).


(١) ((ميزان الاعتدال)) (٤/ ٣٢٩).
(٢) ((الفرق بين الفرق)) (١١٤).
(٣) ((تأويل مختلف الحديث)) (١٤) - ((مقالات الإسلاميين)) (٢/ ٢٣٢).
(٤) ((الفرق بين الفرق)) (١٩٧).
(٥) ((فضل الاعتزال)) (٧٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>